- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

تاريخ الحماقة والتحامق

د. سهيل الزين*
لا يخلو التراث العربي من محاولات لاسترجاع تاريخ الحماقة من ناحية إيجابية وسلبية في ان واحد. كتابان يعبران عن ذلك قبل كتاب ميشال فوكو عن “تاريخ الجنون” وهما:
” عقلاء المجانين” للنيسابوري وأوصافهم وأخبارهم، وكتاب ” أخبار الحمقى والمغفلين” لابن الجوزي الذي كتب أيضا في مؤلفاته الأخرى عن الأذكياء، والقصاصين، والوعاظ.
لم يكن هم هؤلاء الكتاب ان يركزوا على معرفة ما إذا كان الحمقى قد عزلوا عن المجتمع ام لا ولكن الاخبار الواردة لا تدل على ان هؤلاء المغفلين او المجانين كانوا معزولين عن المجتمع وإن كان مستشفى دمشق القديم مكانا للعناية ببعض ظواهر الجنون ومعالجته كما فعل ابن sينا وغيره من العلماء. كان الهم ربما سوق الحجة لتبيان اهمية العقل وربما في بعض الأحيان المحاججة في اعتبار الجنون نظيراً للعقل، أواعتبار الحماقة فطرة يمكن تهذيبها إذا ما استعملت أساليب السماع بعيدا عن طبائع الاستبداد…فالامثلة على ذلك كثيرة من أن “كلام الحكيم حماقة في نظر المجنون” أو الشعر القائل “:
لكل داء دواء يستطب به*** إلا الحماقة أعيت من يداويها
وصعوبة المعالجة التي يوردها ابن الجوزي لها علاقة اكثر بأهمية التقاط الاحمق في المجتمع وهو يعمل بحماقته حتى يصلح العمل على تهذيب الاخرين امرا ممكنا بدعوتهم الى عدم التطبع بهم .ولكنها لدى النيسابوري تدل على أهمية التمييز بين الحمق والتحامق أي الظهور بمظهر الاحمق والمجنون تفاديا لعقوبة اشنع في القضايا السياسية وغيرها…ومن هنا قول أبو نواس:
فكن حمقا مع الحمقى فإني***أرى الدولة بدولتهم تدوم
هنا يأخذ الحمق طابعا سياسيا قد يصل الى درجات من نفي الموقف الفلسفي أو الفلسفي الديني الذي قد يجلب قطع الرأس أو الجلد . وكان هذا النوع من الحمق المستحب اشبه بوسيلة دفاع اكثر منه حمقا بمعنى الرعونة الثورية او الصوفية التي يعلن فيها الاحمق الصوفي حلول الله بجسده وكأنه يعترف بحتفه..وقد شوه الكتبة سيرة الحلاج اثناء محاكمته في حين ان لم يكن يتحدث عن صلبه إلا عندما ادرك ان القضاة “العقليين” قد طوقوه بكل الحيل الشرعية كي يكون الحكم قاضيا عليه باستثناء احد القضاة الذي ابرز أهمية الاخذ بالبراءة حتى اثبات الجرم وهو غير الدخول في الظن القاتل والدعوة الى تقليب العامة…وربما غفل الكثير من المثقفين العناية باخبار جحا واخبار علاقة الطغيان الغبي بتكاثر التحامق الذكي للخلاص من العقوبات الجائرة..وفي بعض الأحيان اضافت المخيلة الشعبية كثيرا الى قصص جحا اكثر مما قيل عنه في كل الأقاليم من مصرية وحجازية وعباسية ومغولية وتركية. ولذا لا تكفي هذه الكتب لسبر تاريخ الحماقة في السلوك الاجتماعي والفلسفي والسياسي وحتى الادبي ولا بد من الرجوع الى كتب الجاحظ الذي قال : “تعرف حماقة الرجل في ثلاث: في كلامه في ما لا يعنيه، وجوابه عما لا يسال عنه، وتهوره في الأمور”…ولكن ما كان مصير الجاحظ نفسه وهو بعد ما كتب في تاج الملوك والفلسفة والمعتزلة والادب عجز عن التحامق فقتل لصراحة قوله في حين ان الحكمة الشعبية للعامة كانت حينئذ هو الابتعاد عن شر الخلفاء وكثرة الزاهدين والفرق الصوفية غير المعلنة … فعندما يقترب الامر من سياسة الخليفة تكثر نوادر التحامق والتباله امام علماء الدين او الوزراء اوالمتخصصين فى علم العقيدة . وهنا تأتي الاستعارة بجحا كي ينصح الناس فيقول لهم: :
“”احمدو الله الذى لم يخلق للجمال أجنحة ، لأنها لو استطاعت الطيران لهبطت على أسطح بيوتكم فخربتها على رؤوسكم”…او الطرفة الأخرى التي تروى عنه حين رد على الخليفة المغولي الذي كان يفتش عن لقب شبيه بما كان الخلفاء العباسيين قد اتخذوه لأنفسهم ألقابًا مثل : (الواثق بالله) و(المستنصر بالله فاجاب : (أعوذ بالله)…
ولكن يبدو ان حدة الحماقة وتطورها كمؤسسة تستعين بعلم الفلسفة والتاريخ وتفسير ما المقصود من الانتقال من الملك العضوض الى منهاج النبوة قد قطع شوطا بعيدا ومغرقا بالدموية في العصر الحديث الذي يستعيد احلك فترات الفتن لاصلاح الامة باسم ارشادها حتى انه يبدو علينا الان اشبه بما هو مهمة تاريخية هي الالمام باساليب مقاومة القدماءالجدد امام جحافل الحماقة القادمة…يبدو ان الامر في بدايته حسب الفلاسفة الجدد المعجبين بالنموذج الأمريكي في الحماقة المعولمة… ولكن كيف تستطيع ان تعزل الحمقى وهم في اعلى السلطة او ربما في صفوف من يريدون تغييرها دون ان تفهم ما يريدون ان يغيروا بالضبط…فلنبدأ بالكتابة منذ الان فالدرب طويلة…

*مفكر مقيم في فرنسا

(مقالة وردت على صفحته)