- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

جدّي أوصى بحب الأرض والحفاظ عليها

capture-decran-2016-10-23-a-17-40-33محمد فرحات

إختلط الأمر في عقل جدي بين كرة القدم والفليبرز. أسرّ له أحدهم بأنني كثيراً ما ألعب الفليبرز. في المساء أنّبني بشدة: ” تذهب الى هناك كل يوم لتمزّق حذاءك… أنت أيضاً لا تقدّر تعب والدك ولا عرقه “.
تقلّص وعي جدي إلى مقدار النصف تقريباً بعد عودته من بيروت ، حيث أمضى ما يقارب الخمسين عاماً في مهنة العتالة في الأسواق. تقلّص وعيه، ولكنه حافظ على ذكاء عُرِف وإشتهر به. كان في الثمانين من عمره عندما ترك عمله، قبل أن يحوِّل نفسه الى ناطور كَرمِنا المملوء عنباً وزيتوناً وتيناً وإجاصاً…
أصبحت رحلته في الخمسمائة متر الفاصلة بين المنزل والكرم تستغرق أكثر من نصف ساعة. كان يذهب يومياً الى هناك، يُنظّف التراب من الحجارة، جلوساً أو متّكئاً على عصاه، أو يقوم بتسييج حدود الكَرمِ بالقندول اليابس والبلاّن، حتى قيل يوماً: ” حتّى العصافير لا تستطيع النفاذ من خلال سياج أبو محمود فرحات”.
كان عليّ أن أذهب اليه كلّ يوم مع إبريقٍ من الفخّار مملوءاً بمياه باردة. هو لم يكن قادراً على حمله صباحاً، ولكنه كان يعيده فارغاً كل مساء.
تأخرت يوماً في الوصول إليه، حيث صادفت أولاداً يلعبون على ” طريق النهر “، وضعت الإبريق جانباً لساعتين أو أكثر. لأصل إليه ظهراً، حيث كان العطش قد جعله يجلس ويلهث في فيء زيتونة… شرب مقداراً كبيراً من المياه التي كانت تحوّلت الى حارّة، قبل أن يستجمع قواه ويرمي الإبريق باتجاهي صارخاً: ” جيل حمير ما رح يطلع منّو شي “.
أدركت حينها بأن وعي جدي قد تقلّص الى مقدار الربع تقريباً… بدأ كل شيء يتغير فيه، إلا نظافة ثيابه و ” فولاره ” البني والنابين الوحيدين المتبقيين في فمه.
أصبح يكره كل شيء الا الكرْم وأنا. كنت الوحيد الذي يشاركه الغُرفة ” السفلية “. في الغرفة سريران مع فراشين من القطن ” المنجّد ” ووسادتين محشوّتين بال ” الرُّويْشة “، وهي من الفضلات التي تنتج عن القمح المسلوق بعد جرشه وتحويله الى البرغل.
في شهوره الأخيرة كان عليّ أن أنظّف ” الكيلة ” البلاستيكية التي أصبح يبول في داخلها… أذكر أنّها كانت عبارة عن الوعاء الذي تباع فيه مادّة الحلاوة، ونسمِّيه في قريتنا ” مَجمع الحلاوة “… كانت الى جانب سريره… لم يكن بحاجة الى خلع ملابسه عند قضاء تلك الحاجة… في وسط سرواله العربي الأسود ثمة فتحة من الأسفل مخصصة للعضو وللتهوئة..
تعوّدت على ” شخيره ” وتلك الرائحة، كما على صوت السائل الذي كان كثيراً ما يخطىء ” الكيلة ” لينزلق الى أرض الغرفة الإسمنتية.
استيقظت في إحدى الليالي على صوت شخير من نوع آخر… كان مستلقياً على ظهره وعيونه شاخصة الى الأعلى… لاحظت أن أنفه قد أصبح أكبر من المعتاد… ركضت الى ” العليّة ” حيث ينام أبي… أيقظته وأنا أقول بصوت خافت: ” قوم يا بيّي بيّك مات “.
قبل موته، أصبحت رحلته الى الكرم تستغرق زهاء ساعة كاملة… لم تعد تلك العصا الصفراء كافية لتحل مكان أقدامه. كان علينا أن نسأله عن العنقود الذي يجب علينا قطفه والتهامه… أسرّ لي يوماً : ” لازم تلحق العنقود اللي بكون ماكل منو الدبور، بكون حِلوو أكتر”.
جدي وكَرْمِه، الذي إشتراه ببدل سنوات وسنوات من عمله في العتالة، قصة يعرفها كلّ أهالي قريتي… في إحدى المرّات حاول أحدهم وعلى سبيل المزاح أن يغريه بمبلغ كبير جداً من المال، بعد أن قال له بأنّه من قرية أخرى ويود شراء الكرم… كان جوابه بأنّه مجرّد ناطور عند أصحاب الأرض، ولا يعرف شيئاً عن البيع والشراء… كان وعيه حينها قد تقلّص الى حدّه الأدنى… ولم يتبقى منه سوى بذرة حبّه للأرض المزروعة في وعيه ولاوعيه على حدّ سواء…
أنا ورثت هذه الأرض… الكرم الجميل… هنا أعيش حيث عرق جدي وأبي… هنا في وسط كل نقطة عرق سقطت من جبينه في أسواق بيروت… جدّي أوصى بحب الأرض والحفاظ عليها من غير أن يتكلّم…
في آخر زيارة لأبي الى الكرم، وكان المرض قد تمكّن منه، كنت برفقته… ثمة عشبة برية قاسية أمسكها وحاول بكلّ قوته إقتلاعها… اقتربت لمساعدته وقلت له ” دعها لي “… لم يستجب، ولم يتركها الا عندما تمكّن منها… ” أخذ يلهث ” لدقائق قبل أن يقول لي: ” هلّق فشّيت خلقي “…
كلُّ شيء في كرمي لذيذ وطيب، حتى العلّيق البرّي أشواكه لا تجرح.