- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

معهد العالم العربي: الشرخ الاستعماري وصراع الهويات

باريس – «برس نت» (خاص)

تحت عنوان من الشرخ الاستعماري إلى صراع الهويات : عشرُ سنوات من الجدل الفرنسي” أقامَ معهد العالم العربي بباريس ندوةً ، ضمن أنشطة «خميس المعهد» الأسبوعي الثقافي والفكري. وجاء ذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على إصدار مؤلف جماعي تحت عنوان «الشرخ الاستعماري» عن منشورات “لاديكوفيرت” (La Découverte)، أشرف على إنجازه المؤرخ باسكال بلانشار المتخصص في التاريخ الاستعماري .
شارك في هذه الندوة التي أدارها المؤرخ نفسه بلانشارو كلٌّ من فرانسوا جيز، مدير عام دار النشر التي صدر عنها الكتاب، والباحث والروائي رشيد بن زين وهو مفكر فرنسي في الشأن الإسلامي، والروائي الكسيس جيني الحاصل على جائزة  غونكور الفرنسية عن روايته الشهيرة “فن الحرب الفرنسي”، و المؤرخ المتخصص باليمين المتطرف “نيكولا لوبورغ” .
استُهلت الندوة بمداخلة فرانسوا جيز، فأفاد في مُداخلته بأن الكتاب الذي استدعى إنجازُه سنتين من التحضير والتحقيق قد تزامن مع صدور دراسات عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع حلّلوا الظاهرة الاستعمارية، وأجمعوا على ضرورة إماطة اللثام عن الإرث الاستعماري المسكوت عنه، وذلك بُغيةَ فهم المجتمع الفرنسي الحالي  الذي لا يزال أغلبه، على نحوٍ غير مباشر، غير مُتصالح مع ذاكرته الاستعمارية ويصعب عليه الاعتراف بمعاناة الآخرين خلال تلك الحقبة المأساوية .
وأضاف فرانسوا جيز أن الذاكرة الاستعمارية تُمثِّل حتى الآن جُرحاً غائراً لم يندمل بعد، وذلك على الرغم  من الجهود الحثيثة في دراستها وتنبيه المجتمع إليها،  وإثارة التساؤل عن أبعادها المنسية أو الـمُتجاهَلة.
وفي هذا السياق استلم المؤرخ باسكال بلانشار الكلمة مُذكِّراً بالاضطرابات العنيفة التي وقعت في الضواحي الفرنسية أواخر عام 2005 إثر مقتل  شابين عند محول كهرباء لجآ إليه هرباً من مطاردة الشرطة في كليشي-سو-بوا ( Clichy  Sous Bois). مضيفا أن شُبَّان الضواحي الغاضبين اعتبروا حينئذ أن هذا الحادث جاء نتيجة أسلوب التفرقة العنصرية الذي تنتهجه معهم الشرطة. كما أشار بلانشار إلى السجال الذي برز بعدها حول الهجرة والإسلام والهوية الوطنية  ضمن سياق وضع أمني هش وحالة اجتماعية صعبة ما يزال يعاني منها شباب الضواحي. وأضاف المؤرخ باسكال بلانشار أن الهوية الوطنية الفرنسية كما تم طرحها آنذاك تلغي تنوع المجتمع الفرنسي نفسه، إذ بنيت على خلفية تهديد الهجرة للهوية الوطنية الفرنسية. مثيرا بذلك موضوعاً طالما تكتّمت السلطات عليه ألا وهو شبح الإرث الاستعماري الذي يخيم دوماً على الذاكرة الجماعية، حيث إن الجيل الثالث من المهاجرين يشعر أنه ضحية لممارسات عنصرية في مجتمع فرنسي يحيله إلى الدرجة الثانية من المواطنة لكونه منحدراً من أصول غير فرنسية، أي من مستعمرات فرنسا. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، يرى المؤرخ أنّ ثمّةَ صعوبةً كبيرة في القبول بوجود أبناء المستعمرات السابقة على أرض الدولة الاستعمارية التي كانت تحتل بلدانهم. وفي النهاية، يستنتج بلانشار إلى أن خلفية الذاكرة الاستعمارية حاضرة بقوة في الأذهان رغم اختلافها. مما يجعلها تعارض بين “الأنا” أي “الهوية الوطنية”والآخر “الـمُهاجِر”.

أمّا رشيد بن زين، المعروف بكتابته الجريئة والعميقة في الشأن الإسلامي داخل فرنسا ، فاستهلّ مداخلته بالتذكير بتاريخ وصول الإسلام إلى فرنسا حيث كانت الكاثوليكية تعتبرها ابنتها البكر قبل الثورة الفرنسية ، وحيث أصبح التراث اليهودي المسيحي مرتبطاً بالهوية الثقافية في فرنسا، ما بعد المحرقة النازية.
وهنا قسّم رشيد بن زين الوجود الإسلامي في الذاكرة التاريخية لفرنسا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى هي التي عاصرتْ وجود الإسلام في الأندلس، وفترة حروب “الاسترداد” من القرن التاسع إلى الخامس عشر حيث كان المسلم – الموريسكي – موصوفاً حينئذ بالعدوّ اللَّدود ومصدر التهديد والخطر. ​
أما المرحلة الثانية فقد بدأت بعد الحرب العالمية الأولى عندما هاجر إلى فرنسا عدد كبير من المسلمين من مستعمراتها في شمال أفريقيا، وكانت الهجرة تلبيةً لحاجة فرنسا إلى الأيدي العاملة الرخيصة في المقام الأول . وفي هذه المرحلة  تحوّل الإرث العدائي للمسلمين إلى معاملة هذا الآخر الضعيف الفقير ضمن رؤية استعمارية مهينة مستبدة وسالِبة للكرامة بلغت  ذروة اشتغالها خلال حرب التحرير الجزائرية . وهكذا توارثتْ أجيالُ المستعمرات السابقة التي ولدت على أرض الدولة الاستعمارية، الشعورَ بالإقصاء والوصف الدائم لهم بأنهم فرنسيون من أصول مسلمة، ليخلق عندهم، حسب بن زين، شعور أن فرنسا هي الوالد الذي تسبب في انجابهم على أرضها. والحال أنّها ترفض الاعتراف بهم بوصفهم أبناءها الشرعيّين.  ومن هنا يشير رشيد بن زين إلى فكرة إقصاء الآخر في بناء الهوية الوطنية. فمن جهة نجد الأنا “كهوية وطنية” حيث يأتي الإسلام نقيضاً للأنا الفرنسية، ومن جهة أخرى نجد الأخر “أبناء المهاجرين” الذين بدورهم يبنون فكرة “الأنا” انطلاقا من تمسكهم بكل ما يمكن أن يُميّزهم عن الآخر. ليتمسك الطرفان بإقصاء الآخر في بناء هويته. وفي الـمُحصِّلة، كما قال بن زين، يظهر التصدُّع الكبير الذي يشق المجتمع الفرنسي والذي لم يتصالح في أغلبه مع ذاكرته الاستعمارية.ذلك أنّ مقاومة الاندماج الثقافي متزامنة مع أزمة الهوية.

وخلُص  بن زين إلى القول:”على الدولة الفرنسية التي وجدت نفسها عام 2015 أمام تحدي ردع خطر التطرف الإرهابي  المنطلق من أحياء الضواحي التي يشكو شبابها من عنصرية المجتمع الفرنسي، أن تعي أن فرض هوية  أحادية على فئة اجتماعية ذات هويات متنوعة هو أحد المكونات الحاسمة  في تشكيل هويات  متوترة  غالبا ما تولد  أشكالا من الرفض الانعزال والتي بإمكانها أن تهزم أي تعاطف إنساني تجاه الآخر” .
وقد اقترح في خِتام مُداخلته إنشاء مشهد اجتماعي – ثقافي جديد يعترف “بتعددية الانتماءات” في تكامل المجتمع الفرنسي. ليتصالح في أغلبه مع الذاكرة الاستعمارية. كما دعا إلى رصِّ الصفوف، وبذل الجهود لاسترجاع هذه الذاكرة ومحاورتها بكل جدية وتعقل بحيث يمكن أنسنتها رغم تشبعها بالفواجع الأليمة القاسية، كما يجب في الوقت نفسه، عدم إغفال حقيقة أن الإسلام أصبح جزءاً من المشهد الديني في فرنسا وضمن سيرورة تالريخية طويلة لم يعد التراجع عنها ممكنا وإن توهمت بعض القوى اليمينية . وبصيغة أخرى، فلا بُدَّ من جرأة تاريخية وإرادة سياسية تؤسس مفهوم الهوية السردية المشتركة، تجعلنا في الوقت الذي نذكر فيه نابوليون الثالث، لا ننسى الحديث عن الأمير عبد القادر الجزائري أحد رموز المقاومة ضد الاستعمار.  وعندما نذكر البطل الفرنسي الاسطوري جان مولان، علينا أن لا ننسى بالمقابل بسالة وشجاعة الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي الأسود فرانس فانون الذي دافع عن حق الجزائريين في استرجاع كرامتهم واستقلالهم . وعندما نذكر المناضلة جيرمان تيون، علينا أن نذكر الملك المغربي محمد الخامس الذي كان له أثر قوي في تصعيد المقاومة ضد الاحتلال . وأيضا عندما نذكر ألبير كامو، صاحب جائزة نوبل للآداب، لا يجوز أن نُغفِل ذكر رفيقه الأول في عالم الصحافة والإبداع الكاتب الجزائري العالمي كاتب ياسين.
من جهته ألقى نيكولا لوبورغ كلمة حول  “حزب الجبهة الوطنية الفرنسي”، مُشيراً إلى أن هذا الحزب ينتهج خطابا مناوئا للهجرة والتنوع الثقافي، ويُقدِّم نفسه بوصفه قوةً صارمة غايتُها حماية الهوية الوطنية في المجتمع الفرنسي.  وذكر أن الحزب يحن إلى أيام “الجزائر الفرنسية” وأن مؤسسه “جون ماري لوبن ” شارك في فرق المظليين وكان من أولئك قاوموا استقلال الجزائر بكل السبل .
فخلال فترة الاستعمار، كما قال،  كان يطلق على السكان الأصليين للشمال الإفريقي  اسم ” العرب” و”المسلمين” أيضًا. وفي ظل     ” نظام الأهالي “، كانت هناك إجراءات تعسفية ضد السكان الأصليين، ولم يعد الاسم الرسمي للغالبية الساحقة من الأهالي هو “البربر” أو “العرب” بل  دُمِجوا تحت تسمية واحدة هي “المسلمون”.
وبحسب  المؤرخ  كانت هناك إرادة قوية للتفرقة بين العرق الأوروبي “المُستعمِر” والسكان الأصليين للمستعمرات “الأنديجان” ليعود بعدها فيذكر بأن “حزب الجبهة الفرنسي” تأسس عام 1972 وهو التاريخ نفسه الذي صدر فيه قانون ضد العنصرية المعروف باسم قانون “بليفين” . مما جعل في وسط اليمين الراديكالي تُوزَّع مذكرة داخلية يُحَثُّ فيها على تغيير كلمة “العرق” بكلمة “الهوية” في الخطاب السياسي .

ولم تكن مداخلات الآخرين أقل عمقا وأهمية ، خاصة وأن الجميع ينتمي إلى تيار ثقافي عام يمارس النقد ويطالب بالحوار والتعايش في عالم لم يعد يعرف الهويات الصافية النقية إلا وهما .