- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

لبنان: « التعامل مع اسرائيل» والتراشق الإعلامي

د. حسان يحيى* (خاص)

كشف السجال الذي جرى إثر توقيف «مؤقت» للمخرج السينمائي زياد دويري حالاً ثقافية لا تشرّف. الكثيرون انشغلوا بعيداً عن النقاش في الأساسيات، وفضلوا الإنضمام الى جوقة التراشق الإعلامي التي لا تترك مناسبة تمرّ من دون تصوّيب سياسي على الآخر وابراز عمالته.

وتختلط الأوراق…

الواقع أن دويري تجاوز بفعلته القانون والأخلاقيات المتجذّرة في الوجدان الشعبي، بما يتعلّق بكيان الإحتلال الصهيوني. ولم تُوجّه اليه أية تهمة، على مدى سنوات. واستسهل بعض «المثقفجية» الإصطفاف خلف أفكار وأراء تسامحية، غزلوها قماشاً يحجب الرؤية، الى درجة تسطيحية تُمحي الفوارق بين الغاصب والُمغتصب.

فادعى دويري ببساطة، أنه يقاوم اسرائيل ثقافياً… بينما في الواقع، هو يُضفي صبغة انسانية وشرعية أخلاقية على منّ لا يستحق… أي على الكيان الذي يحتل الأرض ويُهجر ولا يترك للصلح فسحة. العدو الذي يعتمد نهج التمييز العنصري.
استفاض الرجل في شرح أفكاره في مقابلات اعلامية عدة: «أقمت لنحو سنة في تل أبيب من أجل فيلم. والفنان له الحق في فعل ما يشاء ». أو « أنا لم أتعامل مع الجواسيس ». وكذلك « ولم يكن ممكناً استبدال تل أبيب للتصوير وولا ممثلاتها وذلك لضرورات تفرضها الصناعة السينمائية »، كما قال « المقاطعة الفنية لا تُعاقب اسرائيل والإسرائيليون لا يسمعون وجهة نظرنا، وليس كل اسرائيلي موافق على سياسة بلده ». وأيضاً كشف « لم أُفاجئ بردود الفعل » وأضاف فمن أهدافي « كسر المحرمات »، و« لا علاقة للفن بالسياسة »، وذهب أبعد من ذلك بقوله « كيف أحاسب، والكل يُطبّع… بل وبعضهم يبيع الإسمنت لبناء الجدار ».

بالغ المخرج الموهوب والطامح للنجاح والعالميّة، في اعطاء الدروس، مما أودى به إلى سذاجة سياسيّة. وبدون خجل أو تمحيص، شاركه الإدعاء بعض المدافعين المعتمدين عن حق التعبير، بشكل حربجي غلّب بناء المتاريس على الحوار. فأُستعيدت الفلكلورية اللبنانية “14 آذار” و”8 آذار” وتشابكت اللغات الخشبية، وسُخف إعلاميون طالبوا بتطبيق قوانين، وحللّ بعضهم علم ـ نفسياً كامل الحياة السياسية بروح من المناكفة والمكايدة. والمحصلة: جملة أسئلة مفتوحة وكلام يدافع عن « حق الفنان » في ممارسة إبداعه «بمعزل عن السياسة»… وتشويش على بعض المفاهيم والمبادئ التي تتعلق بالعدو والصديق… وتسرّيب نوع من الميوعة بشأن التعامل مع اسرائيل كدولة جوار، من الممكن استخدام عاصمتها العصرية تل أبيب، كستوديو تصوير محايد.

أن الإبداع الفني والحصول على جوائز لا يعفيان من المساءلة. يبقى المهم، وهو أن يُطلق نقاش جدي حول معنى العدو، ومعنى التطبيع مع إسرائيل والحال الفلسطينية والعربية على ما هي عليه. نقاش يضيء على مستويات التعامل واختلاف أنواعه. وعلى معرفة كيفية التعاطي مع الفنانين والعلماء والمثقفين الإسرائيليين، والتحاور بخصوص الأسلوب الأنجع للمجابهة على الساحة الثقافية وغيرها. فليس كل احتكاك خيانة. بل ربما يكون فرصة، تكشف فيها حقيقة الإرتكابات غير الإنسانية.

وللنقاش أن يعالج أسئلة عن مستقبل إسرائيل المتقوقعة على يهوديتها، والتي تعيش على تفتيت محيطها الى إمارات دينية. وأسئلة عن مشروع انقاذي للجميع يبنى على قواعد انسانية ويستوعب نُظماً سياسية تحترم العدالة الحقّة والقيّم المواطنية.

وليطال النقاش المطلوب أيضاً، معنى أن تكون لبنانياً. ولبنان، لا قيامة له من دون دور يلعبه في محيطه. فإذا كان الدور المنشود، هو حمل راية السلام الحقيقي، كنموذج للتعايش السلمي الذي يقوم على قواعد غير عنصرية، فلينبذ الطائفية من أعماقه أولاً. ولكن للأسف، سقط مختبره اللاطائفي في العديد من الإمتحانات في تاريخه الحديث، وبقي « الوطن » اللبناني مشرعاً أمام الأطماع اللئيمة وأيضاً، أمام الإستتباع للخارج. ولم تنفع نظرية الحياد الإيجابي كعنوان لسياسة وحدة وطنية، لأن الحياد غير ممكن والحروب مستعرة في كل الإتجاهات.

واليوم، بعد أن خضع مفهوم الوطنية في لبنان الى تلاعب خبيث. ولم يتبلور لدى « المواطن » اللبناني، مع الزمن، حس وطني كياني متين أو سقف وطني واحد. ولا عجب فالسلطة التي يرعاها الزعماء المذهبيين لا تطبّق القوانين الاّ بإستنسابية، وتفرز جواً تربوياً يخلط بين الأعداء والأصدقاء. لهذا يستسهل البعض التعامل المباشر مع إسرائيل. ويبدو لهم الأمر، كأنه مجرد وجهة نظر.

*كاتب ومثقف مقيم في باريس