- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

غاب المفكر والاقتصادي المناضل سمير أمين…في صمت عربي فج

خالد بريش *

كانت آخر مرة التقيته منذ قرابة الخمس سنوات وذلك في الممر الطويل في مكتبة فرنسا الوطنية (فرانسوا ميتران) وكان يهم بالمغادرة فعاتبته لأنني لم أعد أراه كسابق عهده، مكثرا من الاطلالات على المكتبة. فقال لي وبنوع من أسى يستريح وراء كلماته: «أعرف إن الأصدقاء والمحبين عندما يمرون بالقاعة حيث أجلس، ينظرون إلى مكاني… وهذا بحد ذاته يبعث الدفء في قلبي، ويجعلني أحس بمدى محبتهم لي، وبأنني موجود معهم».

صعدت معه السلالم نحو باب الخروج، وتحدثنا في أشياء جانبية كثيرة وبعض المجاملات، وعن مصر التي تسكن قلبه، وعقله، وكل فاصلة من فواصله. كان يعتصره ألم بسبب ما تمر به مصر، وبسبب الأحداث التي تمر على عالمنا العربي. أتفق معه في بعض آرائه، وأختلف في البعض الآخر جذريا، وخصوصا في الموضوع السوري. ولكن لم يكن هناك مجال للنقاش، وشعرت في لحظة ومن خلال ثنايا عباراته أن الوحدة التي تداهم كل الباحثين والمفكرين، قد طرقت أبوابه أيضا، وبأنه لا يلتقي بكثيرين من أصدقائه منذ مدة.

تعود معرفتي به كمفكر إلى مطلع الشباب، أيام الدراسة في مصر. وكنا أيامها نتبادل الكتب والمقالات فيما بيننا. وبعض الأصدقاء ينسخون صفحات من الكتب التي نتبادلها، وأحيانا الكتاب بأكمله. وعندما وصل إلى يدي أحد كتبه « التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة »، كانت أوراقه تعاني اهتراء من كثرة مرورها على ألأيدي، وكنت شخصيا لا أود قراءته بسبب موقفه من الحقبة الناصرية، ومن قضايا العروبة التي كان له فيها رأيه الخاص. ولكنني مع ذلك قرأته، ولم أستطع فكْفَكة كثير من مصطلحاته. ويومها اتفقنا مجموعة من الطلبة على أن نعقد عدة جلسات نناقش فيها الكتاب، مما فتح أمامنا جميعا بعدها كثيرا من مستغلقات الكتاب، ومصطلحاته الاقتصادية، التي كانت بعيدة عنا كطلاب في مجال التربية وعلم النفس.

وعندما وصلت إلى باريس كان ظل الدكتور سمير أمين رحمه الله يقتحم الأحاديث فارضا نفسه كلما التقيت بأحد الأساتذة الكبار في علم الاجتماع، أو السياسة والاقتصاد. وكلما حضرت لقاء يهتم بالعالم الثالث، وأفريقيا، والعالم العربي واقتصادياته. فكان ذكره على كل لسان، والاستشهادات بأقواله وكتاباته لا تنتهي. لدرجة أن أحد الأصدقاء المتدينين قال لي عنه مازحا: إنه بُخاري علم الاقتصاد الاجتماعي الحديث…!

وعندما التقيته في باريس لأول مرة، وتعارفنا، كانت فرحتي عارمة، وشعرت أنني أمام هرم فكري بكل المقاييس. وأنه قبل كل شيء إنسان بسيط من الممكن الاقتراب منه وقرع أبواب قلبه بسهولة. تتربع ابتسامة هادئة على شفتيه، وتتدفق المعلومات والأرقام على لسانه كحاسوب لا يكل ولا يمل. وإن تحدث عن مصر، فإنه ينسى مواعيده، وارتباطاته، وتطول الجلسة، ويحتد النقاش وهو يستعرض تاريخ نضالات الشعب المصري، وحقوق العمال والفلاحين وكل الفقراء البائسين، وأحوال معيشتهم، ومشاكل السكن، والبطالة، والتعليم، والجامعات والبحث العلمي، وزحمة السير الخ…

وإن تحدث عن أفريقيا، أحسَّ مستمعه وكأن المتحدث سياسي أفريقي خبير في تفاصيل كل ما يدور في القارة السمراء، اقتصادا، وحياة، وفكرا، وشعرا، وأدبا… فالأمور بالنسبة له تشكل أقنوما واحدا لا يتجزأ. والتقدم الاقتصادي هو القاطرة والمحرك.

كانت المسائل بالنسبة له واضحة وضوح الشمس، والأولويات مرتبة في لائحة، لم أشعر يوما أنها قد تبدلت، أو تغيرت بالنسبة ليساري عنيد، ملتزم إلى أبعد الحدود. في الوقت الذي رأيت فيه كثيرين دفنوا بنادقهم، وغيروا وبدلوا ألوانهم وجلودهم. ليأتي الاستعمار بأشكاله وأنواعه على رأس لائحة أولوياته ويتبعه الرأسمالية الناهبة لخيرات الشعوب، ثم التخلف، وتطور المجتمعات، وعملية التنمية والنمو، وتقسيم العالم إلى أربعة أقسام الخ…

كانت كتاباته حول الجنوب وفعاليته، واقتصادياته، وتبعيته، مرجعا للباحثين والدارسين الأكاديميين والهيئات الدولية. وكان سباقا إلى كشف عيوب العولمة وتوحشها وأخطارها… أما مقولته من أن التطور والتخلف يسيران بتواز، وأن الاقتصاد المتخلف ما هو إلا نتاج لطغيان الاقتصاد الرسمالي البشع والجشع، فهي نتاج لبحوث ودراسات معمقة حول التراكم الرأسمالي، ودور الرأسمالية في التخلف، ودورها كاستعمار جديد، وبناء على نظريته القائلة بـ « المركز والأطراف »، أي إخضاع الأطراف، كل الأطراف لحركة وآلية المركز، وانعدام التكافؤ بين المركز والأطراف…

لقد أخذ في تحليلاته ودراساته منحى مختلفا عن بقية الماركسيين العرب، الذين كانوا يرون تطبيق ماركسية ماركس كما هي. بينما نرى أنه بذل جهدا من أجل التوفيق بين مشاكل مجتمعاتنا، والفلسفة الماركسية، محاولا خلق ديناميكية من خلال قراءة تصلح لمجتمعاتنا. بالإضافة إلى أنه كان دائم الدعوة إلى النقد الذاتي، وتحليل لكل التجارب التي مرت بها مجتمعاتنا سياسيا، واقتصاديا، مركزا على دور الديمقراطية في تحديث المجتمعات…

وكان أيضا صاحب الفكرة التي أغضبت منه كثيرين من رفقاء دربه وطريقه، وهي الدعوة للعمل الثوري من خلال العمل الشعبي الديمقراطي المنظم، على اعتبار أن أزمات المجتمع، وخصوصا في عالمنا العربي سببها الغياب الديمقراطي الشعبي. وهو ما عبر عنه في أكثر من مقالة، وفي أفكاره حول ” التحالف الوطني الشعبي الديمقراطي“…

أيها الراحل العزيز

يكفيك فخرا أنك كنت طيلة حياتك الفكرية والإنسانية محاميا شرسا في دفاعك عن العالم الثالث في كل كتاباتك وندواتك، وأنه كان يُقام لك ويُقْعد في كل المؤتمرات العلمية الجادة، البعيدة عن التصفيق، والهتاف، واجترار الكلام والسفسطة، وتدبيج المديح لحكام التخلف والدكتاتوريات. وأن مقولاتك وآرائك تدرس ويتم تداولها في كل جامعات العالم المحترمة، ويؤخذ بأقوالك في المنظومات الدولية ابتداء من البنك الدولي، وانتهاء بمراكز البحوث العالمية. في الوقت الذي لا يعرفون في بلادنا حتى اسمك…!

ويكفيك فخرا ما أنجزته في عقد من الزمن عندما عملت مديرا لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي IDEP في دكار (السنغال) طوال فترة السبعينات، وكمستشار اقتصادي في عدة دول أفريقية. وما وضعته من خطط ساهمت إلى حد بعيد في رفع مستوى الأداء الاقتصادي لتلك الدول، وشكلت رافعة لها.

واليوم يحز في نفسي أن ينعيك أكثر من دولة إفريقية، ومنظمة دولية وأكاديمية، بينما يخيم على بلاد العرب صمتٌ فج، لأن فقدان عالم اقتصادي لا يهمهم بقدر ما يهمهم رقصة « كيكي »، التي تشغل بال الساسة، وأئمة المساجد على السواء. وأن إرثك العلمي البالغ عشرات الكتب وآلاف البحوث والدراسات والمقالات وباللغات المختلفة لا تعنيهم أيضا بقدر ما يعنيهم الحديث عن ثمن حذاء أو فستان لإحداهن…!

بخٍ على زمن لا يكرم فيه العالم والمفكر في وطنه…! بخٍ على زمن يتم فيه التعتيم على المبدعين والمفكرين الكبار، ولا يظهر على شاشات الإعلام إلا الحتاحيت…!

ارقد يا صديقي بسلام هادئا هانئا، وتأكد أنني لست الوحيد الذي سَيَمُرُّ على مكانك في قاعة المكتبة الوطنية حيث كنت تجلس ويتحسس كُرْسيك..

* كاتب مقيم في باريس