- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

ذكريات: بين اقليم التفاح وبراغ

محمد فرحات *
عندما وصلت حرب إقليم التفاح في عام ١٩٩٠ إلى ذروتها وهرب الجميع من القرى الواقعة على خط النار، سافر أهلي في رحلة مضنية الى براغ عبر عدة مطارات، حيث لم يعد يوجد هناك مكان يأويهم ويُشعرهم بالأمان.
كانوا يسافرون في الطائرة لأول مرة، بل كانوا على جهل تام بطبيعة المدن ونمط الحياة فيها. فهم قرويون الى أبعد الحدود، بل أن مجرّد الخروج من جرجوع الى قرية مجاورة كان يُشعرهم بالغربة والقلق والحيرة.
في براغ كان الصراع محتدماً بين أبي وأدراج المترو الكهربائية. لم يكن يدور في خلد أبي يوماً بأنّ يتمكن الإنسان من الصعود أو النزول عشرات الأمتار من دون أن يحرّك قدميه. كنت أشعر بأن العلاقة بين الإثنين ملتبسة الى حد كبير. أبي لا يرضى الثبات في مكانه، والدرج يصعد أو ينحدر وحيداً بسلاسة كمن يقول بأنّه وُجد لراحة الناس وخدمتهم، وأبي ذاته لا يقدر على إستيعاب تلك الفكرة أو كيفية تحقيقها، لذلك وخلال الصعود كان لا يقف في مكانه، بل يحاول تجاوز بعض الدرجات مشياً على قدميه، وكذلك خلال الهبوط الى الأسفل…
ثمّة كراهية نشأت بينهما. أبي كان من الذين يتحرّكون بسرعة خلال عملهم. هو كان يصعد الى رأس شجرة حور شاهقة العلوّ أو الى آخر فند من شجرة الجوز وهو يحمل “مفراطاً” بطول مترين أو ثلاثة، لذلك إعتبر بأن الدّرج الكهربائي أُخترع حصرياً للكسالى من أهالي المدن، لذلك كان ينظر الى ذلك الشيء باستخفاف واحتقار، وكأنّه كان يخاطبه: أنت لست منّي وأنا لست منك!
في أحد الأسواق، حيث كان أحد المزارعين يعرض للبيع كمية من البندورة، هزئ أبي من نوعية تلك الحبيبات ولونها، حيث أراد القول: أنتم تخترعون سلالم كهربائية ولا تقدرون على أنتاج بندورة من النوع الجيد… “هكذا بندورة” أتركها على النبتة حيث هي، بل ولست مجبراً على قطافها وتحمّل عناء حملها الى المنزل… ماذا سيحلّ بكم إذا شاهدتم محصولي من البندورة أو غيرها من الفاكهة والخضار؟
لم يهتم أبي في قلب مدينة براغ لا الى جمال نسائها ولا إلى عظَمة متاحفها وكنائسها وجسورها. كان همّه المقارنة بين ما يوجد هناك من أشياء مشتركة مع ما في القرية. باله كان هنا، في القرية ومحاولة إلتقاط “إذاعة هنا لندن” لمعرفة ما يحصل هنا في داخل القرية، بإنتظار إنتهاء تلك الحرب التي ملأت القرى دماراً وخراباً وسرقات وجثث…
بعد أكثر من شهر، وفي مطار براغ لم يعد ينظر أبي الى الخلف. كان يحاول تحديد إتجاه “جرجوع”، كما المصلّين عندما يبحثون عن إتجاه القبلة الشريفة. كان وكأنّه يريد أن يصرخ: أنا لا أنتمي الى هنا، ولا أريد الإنتماء الى حضارة لا تعنيني… عندي من السلالم الخشبية ما يكفيني للصعود الى سطح المنزل “لتشميس” الجوز والزبيب والتين واللوبياء، وعندي من السلالم ما يكفيني بأن أسندها على فند زيتونة من أجل القطاف… جسر نبع الطاسة له مكانة في قلبي تجعلني لا أهتم لجسر تشارلز الرابع على نهر “الڤولتڤا”… وعندي زوجتي التي كدّت وتعبت أكثر من ألف إمرأة هناك.
في قلبه كان الكثير من الحزن. كان يتمتم ويشتم بصمت… عند إنسحاب العدو من موقع سجد، بعد حرب الإقليم بعشر سنوات، فرح لدرجة أنّه أحضر بندقية الصيد خاصّته وصوّب بإتجاه ذلك الموقع. مصوّر صحفي إلتقط الصورة لتنشر على الصفحة الأولى لإحدى الجرائد في اليوم التالي.
بعد التحرير، كان المرض قد أصبح يسيطر عليه. نزلنا سوياً الى حقلنا الصغير على نبع الطاسة… هناك بكى كالطفل الصغير… كان يعرف بأنّها ستكون الزيارة الأخيرة لذلك المكان، الذي حُرم من زيارته لخمسة عشر عاماً بسبب الحروب. ذلك المكان الذي كان بالنسبة إليه وإلينا الطفولة والشباب وكلّ ما هو جميل ورائع في الحياة!
* كاتب لبناني