حسن الشامي
حسن الشامي *
في الصورة الأولى: كنيسة، كنيسة مهدمة، كنيسة دردغيا في جنوبي لبنان. لم أدخلها سوى مرة واحدة في حياتي رفقة خالي حسن حيث ذهبنا للتعزية. لكنها على الرغم من ذلك، جزء من المكان الأكثر حميمية ودفئاً من ذاكرتي. فأنا، لم يكن يعوزني سوى الوقوف عند الشرفة، أسفل “العريشة”، والنظر إليها، في أي وقت. هناك، حيث تتربع، فوق، أعلى قمة الجبل المقابل. أنظر إليها وأعرف أن جرسها لن يقرع،
ربما لأن الوقت الذي أقف فيه متأخر، لكنني أتأملها وأعلم أن جرسها نفسه، أيقظني. أنظر إلى الكنيسة وأتأمل برجها والجرس، وأعلم أن لي به صلة.
يكون النهار يوم أحد صباحاً. جرس الكنيسة يُقرع. أتقلب بطيئاً في فراش دافئ. أفتح عيني وأميل بوجهي إلى يميني، حيث النافذة المطلة على شجرة الإجاص. العصافير فوق أغصانها تتقافز وتزقزق. الهواء يلفح أوراق الشجرة فتصدر حفيفاً ينسكب في الروح. أميل بوجهي إلى اليسار. أتأمل فراش جدي رغم معرفتي بأنه سيكون فارغاً. فجدّي، من أولئك الكادحين الذين لم يدركوا شروق الشمس وهم نيام. جدي ليس في فراشه،
لكنه خلف الباب. أبعد قليلاً. حيث الأريكة التي يجلس عليها واضعاً الساق فوق الساق، وإلى جانبه، عند الحافة الحجرية، يستقر فنجان من “الزهورات” الساخن وراديو ابتاعه له خالي محمد. يرتشف جدي من الفنجان مُصدراً صوتاً أسمعه من فراشي. أسمع بين الفينة والأخرى أيضاً، صوت ضحكته، فيما هو ينصت إلى جورج جرداق، وإن كان صوت الأخير يخرج مشوشاً.
جدي لم يعد هنا. جدي مات منذ سنين. أما الراديو، فربما قرر أحد ما في العائلة، أن يتخلى عنه لأنه صار قديماً جداً، لا أعلم. شجرة الإجاص ما زالت في مكانها، لعلها تصارع للبقاء ما أمكنها، ربما وفاء لرجل منحها من وقته وعرقه ولهاثه في شمس الظهيرة.
في أرزون، ليس لي سوى بيت جدي بشرفته المطلة على كنيسة دردغيا، وبرجها حيث يُقرع جرسها كل أحد ليبقى شيء ما حيّ يشدني إلى المساحة الدافئة من ذاكرتي. الكنيسة دمرتها إسرائيل. برجها لم يزل سالماً، لكن أعتقد أن أحداً لن يقرعه. إسرائيل تقتل الذاكرة. إسرائيل تفعل هذا بي.
* كاتب لبناني مقيم في باريس