- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

لبنان في عصر الجاهليّة

معمر عطوي

غريب أمر مجتمعنا اللبناني الذي لطالما وُصف بأنه الأكثر انفتاحاً وحريّة من المجتمعات العربيّة الأخرى لموقعه على المتوسط ولدوره كنقطة التقاء بين الشرق والغرب، كما يرد في كتب الجغرافيا والتاريخ. فهو ورغم وقوفه على أعتاب اليوبيل الذهبي من القرن الواحد والعشرين لا يزال يشبه في بعض تفاصيله مجتمعات العرب القديمة، حين كانت الأنظمة القبلية هي التي تجسد العقد الاجتماعي.

هكذا هو لبنان اليوم رغم مرور قرون على تلاشي نظام القبيلة وما سُمي قسراً بعصر الجاهلية، مجموعة قبائل متناحرة تعمل بنظام يسنّه شيخ القبيلة ــ الطائفة، لا القانون المدني العصري، وتبني أصناماً من التمر والحجارة  لتجعل منها مقدّسات لا يمكن السكوت عن إهانتها أو التجريح بـ«هيبتها».

فلبنان لم يستفد من منجزات الحضارة الحديثة والتكنولوجيا الفائقة السرعة والتوسّع في قرن أصبح فيه العالم عبارة عن قريّة واحدة افتراضية، الا في توظيف هذه التكنولوجيا في صراعاتنا المذهبية والطائفية والجهوية. والتكنولوجيا وسيلة مهمة لتأليف النكات والسخريات من «رموز» الطائفة الاخرى وتعاليمهم ومقدساتهم. يمكن وصفها بأداة حضارية في خدمة نظام متخلّف قبلي لا يمت للحضارة بصلة ولا يعرف للمدنية معنىً خارج عن تعاليم «الولي الفقيه» «والبابا» الموجود لدى كل طائفة من طوائف هذا البلد– الكارثة.

أما صكوك الغفران وبيع الأراضي في الجنة فلا زالت هي معيار التعاطي اليومي بين الذهنية اللاهوتية والواقع المُثقل بتعاليم الخرافة، طبعاً رغم انتفاء وجودها من نبعها الأصلي في القارة العجوز التي بنت دستورها على غير دين أو شريعة ميتافيزيقية، لتتبنى مفاهيم الدولة المدنية التي برع فلاسفة أوروبا في القرون الأخيرة في صياغة دساتيرها وتشريعاتها العقلية البحتة.

قد يكون الحديث عن مجتمع جاهلي بإزاء مجتمع إسلامي، فيه الكثير من الاجحاف بحق تلك الحقبة التي قد اسميها «ما قبل الاسلام» في الجزيرة العربية، والتي رغم وجود تقاليد وعادات متخلّفة، بيد انها حملت العديد من الكنوز الأدبية والعلمية والقيم الايجابية التي لا تزال راسخة في الوعي الجماعي حتى اليوم.

وحتى لا نبقى في سياق العمومية والعناوين الكبيرة، لا بد من إيضاح بعض تفاصيل هذه البنية العلائقية السائدة وسط شعب يتعامل مع الابداعات الجديدة من منطلق استهلاكي تشاوفي ليس الاّ.

إذ كيف يمكن من يعيش في هذه القرية الافتراضية الواحدة ومن يتخرج من جامعات تدرّس أحدث المناهج وأكثرها تقدّماً، أن يقدّس اشخاص ياكلون ويشربون مثلنا ويموتون مثلنا أيضاً، ولا يتوقف الأمر عند تقديسهم والايمان بكل ما يقولونه من دون نقد أو مناقشة، بل يخرج الناس الى الشوارع في تظاهرات تخريبية مشاغبة  بحجة الدفاع في وجه الاساءة الى قداسة فلان او كرامة علتان او مقام صاحب الساحة والسيامة والغبطة والفضيلة والشيخ والسيد والأمير وصاحب الفخامة ودولة الرئيس وسعادة النائب والسفير الخ؟

كيف يمكن لهذا الانسان الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، أن يقف عائقاً بين قلب ابنته وحبيبها فقط لأن الحبيب من طائفة أخرى أو من مذهب آخر أو حتى من جنسية أخرى، في مجتمع أصبح فيه التمييز والعنصرية سمتان يتفاخر بهما الأبناء قبل الآباء.

أليس في هذا وأد للفتاة التي قال عنها القرآن «واذا المؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت»؟ وهل تطور المجتمع في موضوع الثأر من القاتل الى درجة أكثر تقدّماً من مجتمع «الجاهلية» والبداوة، حين نجد التحريض ضد ابناء طائفة كاملة لمجرد ان احد ابنائها او جزء منهم قد ارتكب جريمة بحق شخص آخر صودف انه من الجماعة الأخرى؟

وكيف يمكن الانسان ان ينتقد الوثنية لأنها تعبد الاصنام ولا ينظر الى الأصنام الذي يقدّسها في عصرنا الحالي والتي لا تمثل سوى اشخاص يخطئون ويصيبون وقد يكونون أكثر جهلاً من اقل شخص متعلم في هذه الطائفة أو تلك.

فعلاً الحديث عن الأصنام في مجتمع الانترنت يحتاج الى فصول وكتب، وقد يكون لهذا البحث صلة في مقالات أخرى، لكن يبدو أن حاجة مجتمعنا اللبناني المنقسم بفعل «قداسة» زعمائه رغم فسادهم ووسخهم ونفاقهم وكذبهم، تكمن في تجسيد بعض عادات الجاهلية الأولى التي كانت تصنع الصنم ـ الاله من تمر وحين تجوع تهم بأكله. التجسيد لهذه العادة ينبغي ان يكون بانقضاض ضحايا هؤلاء الزعماء على هاماتهم والتخلص منها لعل بعد ذلك نستمتع بطعم التمر الذي حرمونا منه طوال هذه القرون العابرة.