- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

نازحون يا وطني….

صبر درويش

في دمشق نازحون. لم يأتوا هذه المرة من أراض احتلها العدو؛ قدموا من أرض سورية، هرباً من عمليات إبادة يقوم بها– ويا للأسف- جيش سوريا الوطني! نازحون قدموا من أرض سورية لم تبق فيها قوات الجيش والأمن السوري متسعاً من مكانٍ صالحٍ لمتابعة الحياة البديهية.

من الخط الممتد من أول مخيم اليرموك في دمشق ومروراً بحي الحجر وحيي القدم والعسالي، وصولاً إلى يلدا وببيلا، عشرات بل قل مئات العوائل السورية التي هجرت منازلها ونزحت، خوفاً من موت مؤكد راحت تزرعه ما بات يعرف باللغة السورية الدارجة “بعصابات الشبيحه”.

أسر حملت معها هلعها ورعبها من أحداث ومناظر يصعب تصديقها فكيف وصفها؛ أحداث تجعل من مصطلح “مجزرة” مصطلحاً مخففاً في وصف ما جرى وما يجري.

أسر النازحين ليست كباقي الأسر، سنجد هنا وبالاستناد إلى البيانات المجموعة، أسراً مؤلفة غالباً من زوجة وزوج وضع في خانة الملاحظات: مفقود أو شهيد أو متخفي. وعدد من الأطفال يصل عددهم حتى الأحد عشر طفلاً، غالباً هم ليسوا أخوةً، بل قامت إحدى السيدات–البطلات- بجمعهم على عجل والهرب بهم خوفاً من سكاكين الشبيحه واعتداءات وحوش العصر.

غالباً ما يهرع الأهالي المضيفون إلى تأمين العائلات الواصلة حديثاً، ببيوت تعد على عجل لاستضافة ضيوف حلّوا على غفلة من الوقت؛ فيما مضى لم يكن المضيفون يعانون من أزمة في تأمين المنازل، إلا أن تواتر أعداد النازحين وخصوصاً بعد استباحة بابا عمرو، أدى إلى بروز أزمة سكن دفعت بالأهالي إلى التنسيق مع البلدات المجاورة في محاولة السيطرة على الوضع؛ وفي كل الحالات وتحت أي ظرف، فإن النازحين خلال بضع ساعات يتم تأمينهم في مساكن لائقة ومجهزة، غالباً ما يتم استبدالها بعد عدة أيام كي تفي بالغرض.

بعد تأمين العائلات في مساكنها الجديدة، تبدأ المرحلة الثانية من عمليات الإغاثة، حيث يباشر فريق الدعم الغذائي بتأمين سلال غذائية مؤقتة غالباً ما تحتوي على المواد الأساسية من الزيت والسمن والسكر والرز والبرغل… إلى آخره. وبعدها يتم إدراج العوائل في لوائح المساعدات الدائمة.

تلي هذه المرحلة، مرحلة التوثيق. فيتم توثيق أسماء العوائل، وإحصاء عدد أفراد كل أسرة، بالإضافة إلى فرز الأطفال حسب العمر والجنس؛ ومن ثم يتم تحديد ذوي الأوضاع الخاصة كمرضى السكري مثلاً أو من يعاني من حالة مرضية تحتاج إلى عناية خاصة، وكل هذه البيانات تجمع كي يستطيع الأهالي تحديد طبيعة المهام المطروحة عليهم وتوزيعها فيما بينهم.

وفي كل الحالات تعمل جميع الفرق بهمة عالية كخلية النحل، يسعون جميعاً إلى توفير الطمأنينة لزوارهم الكرام.

منذ عدة أسابيع وفي سياق عمليات التوثيق لفت انتباهنا وضع الأطفال النازحين. ففي إحدى اللقاءات مع إحدى العوائل النازحة، لفت انتباهنا طفل في الثامنة تقريباً من عمره، كان يقف على الشرفة المطلة على الشارع، ويردد بحركة شبه صوفية: “يا الله عجل فرجك يا الله”، ورغم كل محاولتنا التواصل مع الصغير إلا أن محاولاتنا كانت قد باءت بالفشل، فالطفل لم يكف عن ترداد عبارته، بينما أخوه الأصغر وجدناه متقوقعاً على نفسه في إحدى زوايا الغرفة ويمتنع عن التواصل مع أي شخص كان.

حملنا ملاحظتنا هذه ونقلناها إلى أحد المختصين في التحليل النفسي، الذي أكد ان الأطفال في حالة صدمة، وأنه من الضروري إخضاعهم لإعادة تأهيل تقلل من حجم الضرر الذي أصابهم إثر مشاهدات يصعب على الكبار تحمل عنفها فكيف الأطفال؟!

بعد سلسلة من النقاشات والتواصل مع بعض النشطاء، توافقوا على تأليف فريق عمل ميداني من الاختصاصيين في التحليل النفسي والذين هرعوا لتنفيذ المهمة عن طيب خاطر.

وعلى الفور قامت بعض الجمعيات بتبني العمل، فساهمت بالتبرع ببعض الأدوات اللازمة، كدفاتر الرسم وعلب التلوين وغيرها، وذلك في سبيل دعم هؤلاء الأطفال ومساعدتهم.

في الحقيقة، يجد المراقب لما يحدث على الأرض السورية، أن مفهوم الوحدة الوطنية يتجلى لأول المرة بشكله الحقيقي وليس الخطابي، وتتكون معه ملامح هوية وطنية جديدة تعكس ترابط الشعب السوري بكل فئاته، حيث يسعى الجميع إلى دعم صمود بعضهم البعض، وهو بطبيعة الحال ما يكذب كل التهويلات التي تتحدث عن حرب أهلية محتملة أو عن بذور فتنة طائفية تقبع تحت السطح، في الحقيقة لن يجدها المتابع إلا في لغة النظام السوري الركيكة وفي عقول بعض المثقفين السوريين الذين مازالوا يتعثرون بوعيهم (الوطني).