بقلم جوزف كيروز:
كمال الصليبي
سيمضي وقت طويل قبل أن يحظى العرب بمؤرخ من وزن كمال الصليبي، الذي رحل قبل أيام عن اثنين وثمانين عاماً. فالرجل كان مؤرخاً ومفكِراً عزَ نظيره¡ رفدته ثقافة شرقية وغربية قلما اجتمعت «لرحابتها وعمقها» في غيره: لغات الشرق الأوسط القديمة من آرامية وعبرية عتيقة ـ لغة التوراة ـ وعربية وسواها¡ وبعض اللغات الأوروبية وما تختزنه، هذه وتلك، من معارف. على أن الراحل الكبير كان شجاعاً نزيهاً، صبوراً على المشقة، كأي فلاح لبناني أصيل يجهد العمر لتسوية جلول التفاح والكرز. هو كان فلاحاً، لا في جلول بحمدون الضيعة، وإنما في حقول المعرفة التاريخية انطلاقاً من رأس بيروت، منارة الشرق العربي حتى إشعار آخر.
لكن فلاح حقول المعرفة، المحافظ والرصين في كتابيه “تاريخ لبنان الحديث” و”تاريخ الجزيرة العربية” ما لبث أن أطلق العنان لخياله، والمؤرخ الحقيقي عقل وخيال، فأصدر كتابيه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” و “البحث عن يسوع”، فأثارا زوابع الانتقاد من “كل فجّ عميق”.
واعتبر كتابه عن “يسوع” رواية أدبية، أما كتابه عن “التوراة” فلقي مقاومة شرسة لمنعه من النشر انطلاقاً من دار النشر الأصلية، “دير شبيغل” الألمانية ـ وضع الكتاب أصلاً بالألمانية ـ وصولاً الى الدور العربية، بعدما عرَبه عفيف الرزاز.
يقول الصليبي في مقدمة الطبعة العربية: “هذا الكتاب بحث في جغرافيا التوراة على أسس جديدة. وخلاصته أن البيئة التاريخية للتوراة لم تكن في فلسطين، بل في غرب شبه الجزيرة العربية”. وقد بذل المؤرخ طاقته ليثبت، عبر أدلة اكتشفها في مجالي اللغة والآثار، صحّة ما ذهب اليه. ولعلّه أصاب الحقيقة.
لا أحد يشكّ لحظة في نقاء عروبة الصليبي. وأنه أراد أن يدحض مزاعم اليهود في حقوق يدّعونها في فلسطين¡ ولاسيما أن أكثرهم وقد وفدوا من مغارب ومشارق أوروبا. وعلى هذايقول المؤلف، في مقدمة الطبعة العربية الصادرة عن “مؤسسة الأبحاث العربية” في بيروت 1985 ص. 15: “وليس هناك في النصّ القرآني ما يشير الى أي علاقة بين بني اسرائيل وأرض فلسطين، في حين انه جاء في سورة المائدة، الآية 21، “يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم …” والقوم في الآية هم قوم موسى، والأرض باجماع المفسّرين هي “دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقال ابن عباس: “هي أرض بيت المقدس”.
إضافة إلى ذلك فإن كمال الصليبي مؤرخ لبناني نقي من كلّ شائبة طائفية، حتى انه ذهب بنفسه الى وزارة الداخلية ليشطب من بطاقة هويته اسم طائفته، وهو البروتستانتي الأقلوي في مسيحية أقلية.
الدكتور كمال الصليبي، رئيس دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، من معدن أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني بركان يقذف حمماً ولكن الأرض المجاورة، بفضل ذلك، تخضر وتخصب.