علي السقا
ربما هو فتى قليل الكلام. لكن الصبية الذين يلتهمون أوقات فراغهم، وهم يمتطون ظهره، يلقّبونه بالحصان الأبكم. غالباً ما يقولها واحدهم بنبرة المغتبط، أو «متجدباً» بين صحبه من فرط ارتخاء عضلاته. يركبون ظهره المحدودب ويرخون سيقانهم الرفيعة للريح. يستمتعون بالهواء الذي يرتطم بأرجلهم الحافية وهو يجوب بهم راكضاً في الأزقة. «هيا أيها الحصان الأبكم. هيا. أسرع أكثر!». يلحّ عليه احد الراكبين وهو يضرب بكفه قفا الفتى. يجهد في الحركة بوتيرة أسرع. وهو في أثناء ما يفعل هذا يَخرجُ من جوفه نفح ملتهب. لكنه يظلّ يركض. لا يدع فرصة تفوته ليوسم بالحصان الخائر القوة. يرمق بنظرة غاضبة تخالها ستلتهم كل من يعيّره بأنه لما كان يحمل احدهم على ظهره ذات مرة، قد أصابه التعب واضطر أن يدبدب على مهل، لا أن يعدو مثل الحصان. يطلق العنان ليديه ورجليه، يطوف براكبيه الذين ينتظرون متحلّقين أن يأتي الدور لكل منهم. حتى إنهم يتشاجرون ليحظى واحدهم بالسبق على غيره في ركوب الحصان الأبكم.
وهو عندما يطوف بهم لا يأبه كثيراً بمن قد يصطدم بهم في طريقه من مارّة، أو بالدلو الحديدي الذي تضعه تلك المرأة العجوز أمام باب بيتها، والتي لكثرة ما صدمه، اتهمته بأنه كان سبب انخلاع يد الدلو الذي لن تستطيع حمله بعد الآن وهو مملوء بالماء، وبالتالي فإنها ستكون مجبرة على طلب المساعدة من أحد جيرانها الذين تكرههم جميعاً ولا تكلم أيا منهم.
انتظرته ساعة متحينة سماع صوت دبدبته، أو صوت من يركبه وهو يصيح ضاحكاً «أسرع يا حصاني الأبكم. هيا»، حتى عندما أصبح على مقربة من باب بيتها، قفزت لتصبح قبالته تماماً ثم انهالت عليه ضرباً بالدلو الحديدي وهي تكيل له السباب: «خذ هذه أيها الأبله. خذ هذه يا ابن العاهرة. هيا اذهب إلى أبيك، هذا الحمار، وقل له إني قلت عن أمك عاهرة..».
أهل المحلّة جميعهم يتغامزون بسخرية كلما مرّ من أمامهم والد الحصان الأبكم.
يقولون إنه رغم خوفهم منه لامتلاكه جسما ضخما يشبه أجسام البغال، لم يكن في بيته وحيد الغرفة أكثر من أرنب. وهو عند خروجه صباحاً من بيته بصحبة زوجته كان يتعمد أن يمشي مختالاً، بعد أن يجبرها على تأبط ذراعه الضخمة. كثيراً ما تناقل الناس في هذه المحلة خبر سماعهم لها وهي تصرخ فيه متوسلة كل مساء، أن يكون حصاناً. كانت تركبه وتشده من جلبابه قائلة: «هيا يا عزيزي، أريدك حصاناً الليلة، أرجوك، أنا لست متزوجة بأرنب!».
لا يلبث الليل أن ينقلب جحيماً. كان يخور كثور هائج ثم يطحن كل ما يعترض طريقه. حتى انه ذات مساء، امسك بطفله الذي أصبح الحصان الأبكم. ركب على ظهره وهمس في أذنه: «يجب أن تكون حصاناً، لن أقبل بك أقل من حصان. والدك يتمنى في كل ليل أن يكون حماراً. هل تتصور ذلك؟ بتّ ابغض حتى الحمير. أبوك ليس سوى أرنب».
كان الحصان الأبكم مشدوهاً. لم يكن يجيب. أصبح يومئ برأسه فقط وأنفاسه تكاد تنقطع. صار يعضّ الحبل المثبت بين فكّيه والمربوط بعنقه ثم يعكف على الدبدبة في الغرفة مقلداً الحصان. ولما قال له والده ذات ليلة مقهقهاً إن تقليد الحصان يُلزمه أن يكون أسرع من ذلك، فتح باب البيت وراح يهرول في الأزقة.
اعتادت أيدي وأرجل الحصان الأبكم معانقة الأرض. حتى إنها لم تعد تنزف دماً كما كان يحدث في الماضي، كلما احتك كفاه برؤوس الاسمنت الحادة. أضحى قادراً على أن يكون حصاناً يفخر به والده. وربما والدته التي لم تكف عن توسلها لأبيه. أن يرغم جميع من ينعتونه بابن العاهرة من نساء المحلة على الاعتراف بأنه حصان. لكنه لم يوفق بأولئك الصبية الذين باتوا يشكون قساوة عظامه. نزل احدهم عنه فجأة وهو يفرك قفاه بيده قبل أن يركض عائداً أدراجه.
في صبيحة اليوم التالي، وفيما كان يستعد لحمل احدهم، صاح به هذا أن عظام الحصان الأبكم باتت جدّ قاسية، وقد آلمه قفاه، ولذلك فهو لن يعاود ركوبه عملاً بتنبيه أمه. انفض جمع المتحلقين من حول الحصان الأبكم.
كانت المرة الأولى التي يذرف فيها الدمع. راح يصدر أنيناً خافتاً ثم ينهب جرياً في الأزقة مقلداً الحصان.