- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

٦- الرجل الأبيض يموت وحيداً

علي السقا
السيارة السوداء الطويلة تشقّ الطريق مخترقة الضباب. تخرج منه لتدخل كتلة أخرى من الضباب، كأنها تلج جوف شبح أبيض. المطر ينهمر بغزارة. ترتطم حباته ببلّور السيارة الأمامي. تنفلش ثم تمتزج بخيوط خجولة من أشعة الشمس فتأخذ شكل قطرات منسابة من الضوء. 
«يا له من يوم!»، قال السائق متذمراً وهو يسدل حاجب الشمس المثبّت في مقدم سقف السيارة. فالطقس متقلب والسيارة شبه معطلّة، وفي مؤخرتها العريضة يستقر نعش أبيض، ينقله إلى حيث سيدفن. لم يعرف صراحة من سيدفنه. فهو لم يلمح سحنة أحد كان ينتظره منذ أن خرج بالنعش. ما من سيارات تسير ببطء وراءهم، وما من باقات ورد تغطي النعش والسيارة. كان عليه أن يلتزم بما كلفه به موظف مكتب خدمة دفن الموتى قائلاً، «خذ النعش إلى هذا العنــوان الذي أمامك في الورقة. من المحتمل أن لا يكون هناك من ينتظر صاحب النعش أو يعرفه. اطلب إلى أهل القرية التعرّف عليه. أنا لا اعرف اسمه حتى. جاءت إحداهن ودفعت ما يتوجب لقاء دفنه. امسك بهذا الدفتر الصغير وأوصي من سيدفنه أن يرفقه بالجثة. فقد ألحت الفتاة عليّ بطلبها هذا». 
السيارة تكمل سيرها والمطر لا يزال ينهـمر بغزارة. ضغط السـائق على زر تشغــيل المذياع لتنــطلق الموسيــقى. التفت إلى النعش في حركة سريعة. «ما رأيك في سماع الموسيقى؟ … يقال إنها تبعث الحياة في النفس. أنا شخـصياً مؤمن بذلك، لا بل أعمق من أن أؤمن، أنا أشعر. أعمد أثناء عودتي من دفن أحدهم إلى سماع الموسيقى وإذا لم تتوفر، فإني رغم ضخامة صوتي، أغني بمفردي أو أدندن بموسيقى تخرج من داخلي. أشعر بروحي تتسع حتى تكـاد تفيض مني. إني ممتــلئ بما يشبه الـ… بما يشبه ماذا. أممـمم، نعم، بما يشــبه الحبّ. لا ادري أيهما حبيس الآخر. الجـسد أم الروح. أعتقد أن أحدنا لا يملك الإجابة. هـيه! أنصت جـيداً. أووه. يا لها من موسيقى رائعة». 
صمت هنيهة ثم أردف: «مذ صغري اعتقدت أن النعوش بأحجام مختــلفة. فوجئت لاحــقاً أنها بحــجم واحــد. يصقلون بعضــها بعناية ويتــكلفون عليها ، لكنــها بحجم واحد. أجابتــني أمي بذلك ذات عــصر، بعدما دخلت برفقتها وأنا أتشبث بطرف فســتانها إلى تلك الغــرفة العتيقة التي بجانب بيتنا. كان ثمة رجــل كل ما أتذكره عــنه أثناء مصادفتي له وأنا الــعب، انه فــارع الطول. سألتها مستغرباً كيف يتسع النعش لرجل طويل جداً مثــله. أجابتني وذراعها تلتفّ حول عنقي: لأنك صغير كالفراشات، ترى كل الأشياء كبيرة». 
«ماذا عنك أنت أيها الغريب؟ هل كنت مثلي كالفراشات، ترى الأشياء كبيرة وتطرح على والدتك أسئلة بلهاء؟ لقد رأيت وجهك المغمور بالبياض. هل تعرف أن بياضك غريب؟ وكذلك دفترك هذا الذي سيدفن معك». 
بدا للسائق أن ثمة عطل طارئ في السيارة. خفّف من سرعتها ثم ركنها بجانب الطريق. «المسافة طويلة أيها الغريب. يجب أن نرتاح أنا والسيارة قليلاً كي نصل بك إلى حيث يجب أن تكون، سألقي نظرة إلى محتوى هذا الدفتر»، قال السائق بابتسامة خبيثة. أمسك بالدفتر وراح يقلب صفحاته بفوضى. صار ينفخ كمن يشعر بالضيق لأنه لم يعثر على مراده. صفحات مملوءة بكتابات مبعثرة وبعضها غير مفهوم. لكنه أصرّ على قراءة ما تيسر له». 
«ولدت غريباً. وسأموت غريباً. أشعر منذ بدأت أحلم بأشياء ذات معنى، أني سأموت حيث ولدت».  فلامنكو” /اليدان مرسلتان/ وبركان من الرقص الأبدي يتحين/ عدول الرأس عن الانحناء/ قدٌّ كبلح مشرقي يرفل بالسمرة/ كلوحة أندلسية رائعة/ ينتظر بوقار الأميرة/ انسحاب الضوء/ لأن شمساً ستشرق هناك/ من نهايات ثوبها المزركش». 
«عرفتني بنفسها قائلة: أنا الجنون. قلت لها: فلتكوني ما يشبه جنوننا الداخلي، ذلك الذي في السرّ. كلما اقترب الجنون من العلن بات فعله أقل من الجنون». 
«ليس للنجمة من أجل، لكنها ما أن تعزف عن السطوع فإنها تعلن موتها الأبدي». 
«بإمكاني أن أعيش حياتي كيفما اتفق. لذلك آثرت العيش فقيراً. الحب، الحلم، الكلمة والموسيقى قوتي اليومي. انه الغذاء الذي تمتلئ به الروح لا الجسد. فأطفح بياضاً. لذلك بقي جسدي هزيلاً. لم يعد مهمّاً كيف أموت أو كيف أدفن وأين. بإمكانكم أن تحرقوا جثتي إن شئتم، أو تطرحونها في أي زاوية تريدون. لا فرق إن ألقيتم بجسدي في جوفها أو فوق أي من أطراف هذه الأرض. أمي الأرض. أنا ابن هذه الأرض». 
رن هاتف السائق. استجمع أنفاسه ثم أجاب: «نعم، لقد تسلموه، ها أنا ذا أعود». 
أقفلت السيارة السوداء عائدة أدراجها. المطر لا يزال ينهمر بغزارة. والرجل الأبيض يرقد داخل النعش، على بعد أمتار من الطريق الترابية.