- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

الحكمة والأحمق

معمر عطوي

كثيراً ما نسمعهم يتحدّثون عن الحكمة، وأكثر من ذلك لا ينسبون هذه الصفة المتعالية إلاّ لجماعتهم أو أبناء أفخاذهم وعشيرتهم، فيما تحلّق الحكمة في عالم المُثل ولا يطالها إلاّ من امتلك درجة عالية من العقلانية في التفكير والموضوعية في الحكم.

من نسمعهم يتحدثون عن الحكمة غالباً ما يكونون من أصحاب الذهنية الفوقية أو النزعة النرجسية التي تضفي على الأنا كل معاني العظمة والحق والصحة، فيما تجعل الآخر في صفوف من سيكون على “وجوههم غبرة” وفق المفهوم الإسلامي للكفار.

“كل حزب بما لديهم فرحون”، نظرة قرآنية على واقع ما نعيشه اليوم لا تخطئ في إصابة التوصيف. فكل من يتبع الى حزب مُعيّن يبالغ في تصوير محاسن حزبه ويصف كل موقف يصدر عن قيادة الحزب أو حتى عن أصغر عناصره شأناً، بالموقف الشجاع أو العقلاني أو الموضوعي أو المتمتع بالحكمة. أوصاف يطلقونها بدافع التحيّز الحزبي والتعصب الجماعوي، من دون أي تمحيص أو تدقيق في فحوى مفاهيم هذه الأوصاف أو ملاءمتها لما تم قوله فعلاً.

على نفس المنوال يسير المتدينون، فيصف أصحاب المذهب السني أنفسهم بأنهم أهل السنة والجماعة، ومن يسير “على القرآن وهدى سنة النبي وأصحابه لا يمكن أن يضلّ”، بينما يصف الشيعة أنفسهم بأنهم أصحاب سفينة النجاة التي يبحر بها أهل بيت النبي ومن “تمسك بالقرآن وبعترة أهل البيت لن يضل ابداً”. الجامع بين الطرفين هو فقط القرآن ولكن الخلاف حول أهمية النبي والصحابة وأهل بيت النبي والأئمة والانبياء من قبل، خلاف لا ينتهي، من منطلق تصلب عقيدي يصب في اطار من المصالح الدنيئة، ليس إلاّ.

أهل السنة والجماعة يعتقدون أنهم هم فقط أهل الحق، وغيرهم من مذاهب إما باطنيون كفار زنادقة أو روافض مشركون أو نصارى ويهود مشركون أو وثنيون كفار، ولا مكان لهم في الجنة.

 الشيعة أيضاَ مذاهب وملل، وكل ملّة تجد في أئمتها الناطقين باسم الله، والمعصومين الذين لا يزلون زلة أو يرتكبون خطأ. وهذه العصمة التي يعطيها الشيعة الاثنا عشرية لاثني عشر إماماً بدءاً من علي بن ابي طالب وصولاً الى محمد بن الحسن (المنتظر)، موجودة عند أهل السنة لصحابة الرسول من دون أن تكون وفق حكم مبرم. فحديث “من يبايعون الرسول تحت الشجرة” بأنهم مبشرون بالجنة، وفق الآية القرآنية، تؤكد العصمة لهؤلاء الصحابة.

من هنا انطلق الخلاف حول الثقة في مصادر ومرويات التاريخ بين مذهبين تأسسا من واقع سياسي ليصبح لكل منهما عقيدة دينية “صحيحة” لا يمكن مناقشتها رغم كل ما تتضمنه من خرافات وأساطير غير موجودة حتى في قصص وحكايات العرب. وكل مذهب يقول “الدين عند الله الاسلام”، فيما معيار إسلاموية هذا المذهب تختلف عن معايير المذاهب الأخرى، وكل يدّعي وصلاً بليلى.

المسيحيون أيضاً لديهم معايير في الحكم على كل من هو غير مسيحي، وفي كل طائفة أيضاً معاييير تجعل أبناء الطائفة الأخرى ضالين أو كفاراً. وقد حدثت معارك دموية عنيفة عبر التاريخ بين طوائف المسيحية بعناوين عقائدية، فيما كان الخلاف الأساسي مصالح سياسية ضيقة  واقتصادية دنيئة.

والحديث عن اليهود الذين جعلوا من أنفسهم “شعب الله المختار” واحتلوا أرض العرب في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر وشرقي الأردن، وقتلوا مئات آلاف البشر بدعوى التعالي الديني والاصطفاء الالهي، قد يكون من أوضح صور استغلال الدين لتنفيذ الإجرام وسلب المصالح.

وفي الأخير يضفي كل منهم على نفسه صفة “الحكمة”، والحكمة وفق المفهوم الاسلامي “هي ضالة المؤمن” بمعنى أن تحققها في الذهنية أو في الممارسة ليس بالأمر السهل. الا من قبيل الاستهلاك الكلامي فقط. لدرجة أن استخدام هذا المصطلح في غير مكانه، كاد أن يجعل الحكمة تنطق بمدلولات مخالفة لحقيقتها.

واذا ما حللنا كلمة فلسفة، أو فككنا هذا المصطلح، لوجدنا أن معناه “محب الحكمة” أو طالب الحكمة. وهذا المعنى بحد ذاته يجعل الحكمة ضالة كل انسان يجهد ويتعب ويُعمل عقله في كل شاردة وواردة، حتى يصل الى قرار حكيم أو يكتشف ما هو ملائم. وحين نتحدث عن العقل يعني أن نضع الوحي جانباً، ونتجاوز بعقلانيتنا كل ما هو ميتافيزيقي.

في أي حال، المثل الروسي الذي يقول “الأحمق يجهد في طلب الحكمة أما العاقل فيقول: وجدتها” يتلائم مع المفهوم الاسلامي للحكمة بأنها ضالة المؤمن، مع أن المسلمين بمعظمهم مثل غيرهم من المتدينين يتعاملون على أنهم قد وجدوها. والمشكلة الأساسية هي في البعد العقائدي الايديولوجي للجماعة سواء كانت مذهباً دينياً أو حزباً سياسياً او تكتلاً اجتماعياً او حتى جماعة ثقافية.

ولعل هذا البعد الآيديولوجي المناقض تماماً للبعد المعرفي المُفترض أن نحتذيه، هو الذي يعزز ذهنية الاقصاء والتكفير، ويراكم من موروثات التاريخ لخدمة  النزعة الفوقية التي لا علاقة لها بمعنى الانسانية. لذلك ما أكثر من يقول للحكمة “وجدتها”.. فالحياة ربما لا تستقيم من دون هذا الكم الهائل من الحمقى.