- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

٨- يد الأم (قصة)

علي السقا
يقشعرّ بدنه كلّما لفّت نسمات الهواء البارد جسده الطريّ. لكنه يتجاهلها مكملاً تلذذه بالتهام السندويش المحشو جبنة. 
«لا تقف قبالة الحمام. أنت تعترض حركتي. اقعد هنا ريثما أنتهي من غسل عمتك»، قالت الأم متأففة ثم حذرته «إيّاك والخروج إلى الحديقة. وقت قليل وسيحين دورك للاستحمام، فأختاك ما زالتا نائمتين». أومأ برأسه إيجاباً ثم قعد على الكرسي مواصلاً التهام السندويش. يتلاعب بساقيه ثم يختلس النظر من الباب المفضي إلى الحمام. تتراءى له تلك المرأة السبعينية، التي اعتاد مناداتها «عمتي» كما يفعل الجميع هنا، تجلس القرفصاء بظهرها المحدودب ولحمها المترهل. لا تبدي حركة في ما الماء الساخن ينسكب عليها. تلتقط أنفاساً سريعة فحسب. تترك جسدها لليد التي تحرك أطرافه ثم تعمل فيها تلييفاً. 
الهواء الخريفي يزداد برودة. يشعر بوخز في عانته. ينهض من الكرسي ثم يطلب إلى أمه «أريد أن أبول». يدخل الحمام مسرعاً ويبول. البخار يملأ المكان. بدت له أمه وعمته أشبه بخيالات بيضاء. لكنه وفي ما يبول، يواظب على اختلاس النظر إلى الجسد المقرفص بلحمه المترهل وهو يتهيأ بمساعدة يد الأم للنهوض. لم يحتمل جسد العمة السبعيني وطأة البرودة فلم يتمالك أن أخرج ريحاً. 
كانت الأم في أثنائها تتحضر لتأنيبه على تبويله خارج كرسي الحمام، لكن ما أن التقت عيناهما حتى شرعا في الضحك. 
«نعيماً يا عمتي»، قال الطفل متبسماً. 
«ينعم عليك يا عمري»، أجابته قبل أن تبدأ الأم بتجفيف شعر العمة وجسمها. كان رأس العمة رخواً ومتمايلاً مع حركة المنشفة. لكن الأم توقفت لحظة لتحدق إليه ثم تقترب منه لتشم فروة الرأس. انفرج ثغرها عن ابتسامة رضى. «صرتي متل التلج يا عمتي». كانت عينا العمة تطفحان بالامتنان. 
«لماذا جسدك هكذا يا عمتي؟». سأل الطفل وهو يخلع ثيابه استعداداً للاستحمام. فبادرته الأم إلى الإجابة: «لأنها مسنّة، كجدك وجدتك». 
«بل مسنّة من قبلهما، منذ صغري»، عقّبت العمة. أطلقت الأم تنهيدة وهي تطلب إليها رفع ذراعيها كي تتمكن من إلباسها الصدرية. «ليس هناك من داع لألبس الصديرية، فأنا لا املك صدراً ممتلئاً أصلاً»، قالت العمة معترضة. 
«لماذا تشتكين هكذا طوال الوقت؟ ما الضير في لبسك للصديرية؟ ليست كل النساء يتمتعن بصدور ممتلئة. على كلّ حال أنت امرأة مؤمنة وما عشته كان اختباراً لك من الربّ». كانت العمة تهمّ بالوقوف لتضع المنديل الأبيض على رأسها، عندما صاح الطفل بالأم متوسلاً وهو يفرك كفيه «متى سأستحم؟ دنّقت من البرد». 
«عمتي أعطيني يدك»، طلبت الأم إلى العمة كأنها غير آبهة به. لكنها ما لبثت أن أمسكت بيده فجأة لتساعده على تخطي حافة جرن الاستحمام، بعدما كاد ينزلق. 
يغرق الكيل الأحمر في الطشت. يخرج طافحاً بالماء الساخن، قبل أن ينهمر عليه فتسري في داخله قشعريرة تسبق شعوره بالدفء. كان مغمض العينين لحظة عاتبته الأم على سؤاله للعمة. لم تكن تنتظر جواباً. لكنها شرعت تحدثه وهي تفرك جسمه ورأسه بالصابون الذي انساب مغطياً أذنيه، حتى تهيأ له أن صوتها أضحى ضخماً، «لا تعاود طرح هذا السؤال. عندما نكبر سنصبح مثلها. لحمنا سيترهل والتجاعيد ستعيث فينا. ها هي تندب وحدتها كيفما يممت وجهها. تشكو صغر صدرها لأنها ولدت هــكذا. أقل أنوثـة وجـمالاً من قريناتها. إنها ناقمة على صـدرها لأنه أرضع عـظاماً لم تكبر. تزوجــت في سن متأخرة من رجل متزوج كان يعتقد متباهياً أنه خفيف الظلّ، ولكنه في الحقيقة كان بغلاً سمجاً». 
«أحّ. إنها ساخنة جداً»، قال الطفل مبتعداً عن المياه المنسكبة من الكيل. 
صمتت الأم ثم أردفت: «حسناً. سأبرّدها… إنها أفضل الآن. لقد تزوجت بغلاً سمجاً مات هو الآخر، لتمضي شبابها وحيدة، ثم العيش متنقلة بين بيوت أخويها. حسناً. انتهينا. هات يدك». 
«ماما. أنا أحب عمتي!»، أفصح الطفل للأم قبل أن تبادره بابتسامة خفيفة وهي تقوم بإلباسه. كان يقول في سرّه وهو يرفع ذراعيه: «سأخرج لتطعمني عمتي من العجين الذي على طاولة المطبخ قبل خبزه. سأحتمي بها من سخط جدتي». 
وقف بمحاذاة العمة وهي غارقة في الصلاة. كان اليأس قد بدأ بالتسرب إلى نفسه، عندما أحاطت بغتة يد خشنة ومرتجفة بيده الصغيرة، لتضع فيها قطعة من العجين، راح يلتهمها. 


***

أطفأ السيجارة. لفظ دخانها على مهل. كان في لحظتها مقتنعاً بأن الجمال نادرا ما يبقى. وأن الذكرى الجميلة هي التي تبقى.