- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

قارةٌ عجوز

معمر عطوي
ها أنا أعود الى القارة العجوز بعد نحو ثمانية أعوام عجاف مر فيه لبنان بأبشع وأقسى مراحل تاريخه الطويل والمُعقّد.
فحين وطأت قدماي مطار مدينة برانكفورت الألماني، صباح  الأحد الماضي (24-06-2012)، عادت بي الذاكرة الى مقال كتبته حين كنت أقيم لعامين في العاصمة الألمانية برلين، التي غادرتها المرة الأخيرة في نهاية عام 2003.
يومها كتبت ان الغربة عن الوطن لطالما كانت وجعًا يرافق الإنسان في حَله وترحاله بين الحواضر التي قصدها إمَا ركضًا وراء لقمة العيش وإما بحثاً عن علوم وثقافات. لكن في وطننا العربي الُمثقل بإرث الحكومات الأوليغارشية، أصبح للغربة دافع أخر هو البحث عن مناخات الحرية بكافة أشكالها وأنواعها رغم كل الخطوط الحمراء التي تحدد مجالات الاستفادة من الحريات في أكثر البلدان ديموقراطية كبلدان أوروبا الغربية، ورغم كل القيود التي فرضتها أميركا بعد 11 سبتمبر وأحداثه الشهيرة بذريعة الأمن.
فالحرية، هذا المفهوم الذي يحمل تفاسير شتى في كيفية تطبيقه وإمكانيات انخراطه في الممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية، لم يعرف بعد طريقه إلى «النخبة» الحاكمة في دويلاتنا العربية القبلية رغم الثورات التي حركّت المياه الراكدة منذ عقود بفعل آلات القمع وأجهزة الأمن القاتلة.
لم يتوقف الأمر عند هؤلاء الذين رفضوا تقديم أفضل قيمة إنسانية لشعوبهم عند هذا التجاهل ( الهادف لإبقائهم على كراسيهم) بل قاموا بصياغة مفهوم مضاد للحرية بدعم من بعض تيارات الظلامية مستخدمين الدين تارةً والعادات الاجتماعية تارة أخرى لإقناع العامة من الناس أن الحرية هي رديف الانحلال الأخلاقي وأن الديموقراطية هي حكم الشعب وليس الحكم بما أنزل الله، الذي أوكلوا هم وليس غيرهم بتطبيقه متسلحين بالآية الكريمة«أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم».
أما حقوق الإنسان فأزلامهم ورجال استخباراتهم أولى بحمايتها من كل القوانين والأنظمة التي صاغها الغرب، فيما هم يزايدون على بعضهم بقيم الحرية والديموقراطية فتجد سوريا وايران يتحدثان عن الحرية في ظل كل هذا القمع الذي تتحلى به مؤسساتهما الأمنية، بينما يتجرأ بعض بلدان الخليج على اعطاء دروس الانسانية والديموقراطية للرئيس السوري بشار الأسد، فيما هذه الأنظمة القبلية ترقد بكل ثقلها على ناسها كي لا يتحركوا نحو الحرية او الحصول على أبسط حقوقهم السياسية وحتى الاجتماعية او الاقتصادية والثقافية.
هكذا أصبحت معظم دول العالم ملجئاً لموطنينا العرب الهاربين من أكثر من جحيم إلى ما أسماه البعض منفى أو إلى ما يمكن تسميته «مناخ خاص بالإنسان»، بحكم أن من يعيش في بلداننا المستلبة يشعر أنه كومة لحم وعظم لا انسان.
هكذا يصبح الوجع وجعين، وجع الانسلاخ من المكان، الطفولة، الأصدقاء والأهل، والوجع الناتج عن الرؤية المقارنة لمجتمعاتنا ومجتمعاتهم. وإذا صح القول فأنه لا مجال للمقارنة طالما أن الخطوط البيانية للتنمية والصناعة والتحولات الإيجابية، على أكثر من صعيد عندهم، تشير إلى إمكانيات لا يمكننا حتى الحلم بها للأسف الشديد.
وإذا ما عدنا لمفهوم «الانبهار» الذي تحدث به الكثير من المفكرين العرب وبالأخص الاسلامويون منهم لوجدنا كم يكذب هؤلاء ليس علينا (خصوصاً في عصر الانترنت والفضائيات) بل يكذبون على أنفسهم.
وربما وجدنا كم هي عقيمة تلك الطروحات التي يخدَرون بها أنفسهم وشعوبنا كالقول مثلا (نحن أصحاب الحضارة وهم أخذوا منا كل شئ).
ألم يدرك هؤلاء أن كل ما صنعه الأقدمون في الحضارات العربسلامية ما هو إلا نتاجات وإضافات أخذوها من غيرهم وطوروها ؟ ألم يدرك هؤلاء أن من صنع الحضارة سواء كانوا من العرب أو من العجم، هم آخرون وليسوا نحن (أم أن الصلعاء تتباهى دائماً بشعر إبنة خالتها).
حقاً إننا لا نحتاج فقط إلى نظام وقوانين وحرية وديموقراطية بل نحتاج قبل كل شيء إلى تحديد معاني المصطلحات التي نطلقها، نحتاج إلى برامج توعوية حول تحديد فهمنا للهوية وللأخلاق وللفعل السياسي.
فأمام ما يمكن للمرء أن يراه من تطور يصبح الانبهار واجبًا لا بد منه لكن ليس للتوقف عنده بل لمحاولة وضع أسس في مجتمعاتنا لصنع عوامل أخرى للانبهار بعيدا عن روعة الاهرامات المصرية أو أعمدة بعلبك وجرش وتدمر، فالحضارة يا «زعمائنا» ليست أطلالا يتغزّل بها الشعراء والسواح، بل هي قيم إنسانية لم تصل بعد إلى بلادنا رغم ثورة الاتصالات العالمية، لعل ذلك يتحقق في اتجاهين: الأول منع أسباب ودوافع الهجرة لغير طلب العلم والسياحة وسقوط آخر الأنظمة الو راثية في القرن الواحد والعشرين. فكفانا كذبًا وخداعًا، لعل أخطر أنواع الكذب هو الكذب على النفس.