- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

” الصامت الأكبر “

طانيوس دعيبس
عندما يصبح الجيش بحاجة لحماية من الشارع يفقد مبرّر وجوده. هو الذي يحمي الشارع وليس العكس. وليس دائماً. وليس في كل حين. فقط عندما تقتضي الضرورة الوطنية، أي عندما يتهدد السلم الأهلي، وعبر قرار سياسي. ما عدا ذلك، وظيفته هي حماية الحدود.
إنفضاح السياسة في لبنان، يتكشف في واحد من تجلياته في جهل السياسيين لهذه البديهية. او الأصح في تجاهلهم المتعمد لها.
الحديث عن إقحام الجيش في السياسة، يستدعي رده إلى أصوله.. وهي ليست في محاولة استخدامه معبراً للأنتخابات .. ولا في التحامل عليه بفعل هذا الحادث أو ذاك.. أو غير ذلك من الجزئيات..
الأصول عندنا تبدأ مع الرئيس فؤاد شهاب والهالة التي ترسم باستمرار فوق رأس عهده.. التاريخ سينصف تلك المرحلة، بسلبها وايجابها. لكن منذ ذلك الوقت جرى الحديث عن “أكلة الجبنة” – السياسيين ، مقابل العسكر “النظيف”. وجرى الإتكال على العسكر لتنظيف أوساخ السياسة. وصار للمكتب الثاني إسماً مشهوراً في الوسط ..”السياسي”.
تتعدد الأصول طبعاً، ومنها سيادة العسكر وانقلاباتهم في الدول الشقيقة. وقد بقينا لحسن الحظ بمنأى عن وبائها. ليس بدليل فشل الإنقلاب القومي المزري، بل أيضاً بدليل فولكلورية عبد العزيز الأحدب وأحمد الخطيب، بالرغم من انهيار الدولة حينها.
وتمر الأصول بالعام 1988، حين قرر الرئيس أمين الجميّل تسليم السلطة للعسكر بدل السعي إلى انتخابات رئاسية دستورية وفي موعدها ( الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لرئاسة الجمهورية ). ونشأت ظاهرة العماد عون المستمرة حتى اليوم. وكانت قد استعيدت معه محاولة توأمة الموقع العسكري الأول مع الموقع السياسي الأول في الدولة. وقد قام بها في ذلك الوقت سياسيون لم يعرف عنهم حبهم للعسكر ( غلطة الشاطر ). والأنكى انهم فعلوها لمواجهة الميليشيات وزعمائها الذين أخذوا دور التقليد السياسي ومكانته في السلطة. وكم تبدواليوم ساذجة محاولة وضع العسكر بوجه الميليشيات، بعد تجارب حربي التحرير والإلغاء، وبعدهما حرب تحرير بعبدا من التمرّد، وقبلهما وفي أساسهما نظرية “الجيش هو الحل”، وقد مرت مياه كثيرة منذ تلك الحالة وما أوصلتنا إليه..
لم يستطع الطائف، بفعل الإنقلاب عليه، وبعد اغتيال أول رئيس جمهورية ينتجه، وانتخاب الرئيس الهراوي من خارجه، أن يعيد النصاب إلى التوازنات السياسية الطائفية الطبيعية التي وضعت كاساس نظري لجمهوريته المنشودة. كانت حاجة ربط المصير والمسار بين لبنان وسوريا أقوى وأبدى من الحاجة إلى استعادة الجمهورية. كانت الترضية التي أعطيت للمحاربين بإدخالهم إلى الدولة غير مرفقة بالحاجة إلى دمجهم بها، فدمجوها بهم. كانت إعادة الترتيب، بعد سقوط أوهام إعادة البناء، تقتضي إنشاء منظومة سياسية-عسكرية-أمنية، قادرة على إدارة “الساحة” اللبنانية وفق جيواسترتيجيا الصراع الإقليمي ومتطلباتها، السورية حصراً. فكان تلزيم الإعمار مفصولاً عن السياسة والأمن. وكان التمديد للرئيس الهراوي ( إمعاناً في تهميش الرئاسة ). وكان التمهيد، ثم التنفيذ لعملية دمج الموقع العسكري الأول بالموقع السياسي الأول مع الرئيس لحود ( إمعاناً في تهميش السياسة ).
عجز الإجتماع السياسي اللبناني، بقواه وقياداته ونظامه، عن استعادة الدولة ومشروعيتها وبالأخص مرجعيتها. وانفجرت المرحلة الإنتقالية ( المستمر انفجارها بأشكال مختلفة ). وأدى ذلك إلى اختيار اللواء سليمان ( الموقع العسكري الأول ) رئيساً للجمهورية ( الموقع السياسي الأول ). وتجدر الملاحظة أن الدمج بين الموقعين لا يؤدي تلقائياً إلى الدمج بين الإمكانات والفعالية. وتكفي مقارنة ما قام به الجيش بقيادة اللواء سليمان، وما تعجز عن القيام به الدولة بقيادة الرئيس سليمان.
الأصول، وما تبنيه في الوعي، بفعل انفضاح السياسة، لا تزال حاضرة. فمن غير المفهوم رؤية صور قائد الجيش مرفوعة في الشوارع في نظام برلماني ديموقراطي، كما يوصّف نفسه. ومن المستغرب رؤية السفراء في مقر قيادة الجيش وليس في مكتب وزير الدفاع، بعد دستور الطائف بالأخص.
النخب السياسية، المصابة بالإهتراء، مسؤولة في الأساس وفي الممارسة عما يغشى من حين إلى آخر صورة موقع الجيش في الحياة العامة والوطنية، وداخل إطار الدولة ( وكل بقية الصور طبعاً). لكن، لا يجب أن يؤدي بنا هذا الواقع المأزوم على مستوى السياسة، إلى الإستنتاج أن الجيش لا يجب أن يبقى “الصامت الأكبر”.