- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

قناة الدنيا وأخواتها… والحقيقة

جاد عويدات
انطلقت موجة من الإدانات بحق قناة الدنيا ومراسلتها بسبب تقريرها المصور عن المجزرة التي وقعت في داريا بريف دمشق. لقد تحولت ميشلين عازار إلى “الصحافي الشيطان” الذي يتجول بين الجثث، كأنها أشياء، غير آبهة بما قد تحدثه هذه التصرفات من ردود فعل وصدمات لدى الرأي العام المحلي والعربي والعالمي، خصوصا عندما يتراوح عدد الضحايا المتداول من قبل مصادر مختلفة بين ٢٥٠ و٤٠٠ بينهم الكثير من الأطفال والنساء. تقرير قناة الدنيا عن المجزرة في داريا كان رديئا وتافها ومقززا. والأهم أنه كان متسرعا. لا شك بأن الصحافية، بحماسة مفرطة وزائدة عن المطلوب، أخطأت في سرعة وصولها الى مكان المجزرة مع عناصر الجيش السوري النظامي فراحت تنقل الحدث وتفاصيله بكل دقة “اعتقادا” منها أن الجلاد هو الطرف الآخر في هذا الصراع، لذا كان إظهار وحشية الآخر هو الدافع لمثل هذا التصرف الأحمق

لم تبد أية من علامات التأثر والوجوم على وجه الصحافية المذكورة، لماذا لم تبك الصحافية؟ ليس ضروريا أن تبك أمام المشاهد خلال تسجيل رسالتها المصورة، لكن، لماذا لم يرتجف صوتها؟ لماذا لم تتلفظ بكلمات الفظاعة لوصف المشاهد الشنيعة التي تذكرنا بمجزرة صبرا وشاتيلا (خاصة في المقاطع بعد الدقيقة الثانية ألخ)، لماذا لم تغضب من هول المشهد؟ لقد بدت كالرجل الآلي تتحرك بين الجثث من دون حرج وتسأل المرأة عن هوية القتلة ثم تسأل الطفلة عمن حولها من القتلى (والمرأة القتيلة ليست سوى أم الطفلتين). ليست المرة الأولى التي يرتكب فيها صحافي أو مراسل مثل هذه السقطة. هل تذكرون قصة ذلك المصور الذي انتحر… قصة ذلك المصور الجنوب أفريقي كيفين كارتر الذي تخلى عن إنسانيته لوهلة في سبيل التقاط صورة ذلك النسر المحدق بطفل سوداني يعاني من المجاعة إلى أن ينقض عليه وسط انتظار من المصور لمدة عشرين دقيقة ليخلّد ذلك المشهد عبر كاميرته وفي اللحظة الحاسمة يلتقط الصورة “الرائعة” التي تؤمن له الفوز بجائزة بوليتزر وتنشر في أشهر جرائد العالم. دافع المصور عن نفسه فيما بعد وعن “تصرفه الآلي” لكن العودة إلى الذات والضمير الإنساني كانت كفيلة بأن يعود المصور عن أنانيته وأن يرد على منتقديه بالانتحار، بالتأكيد لا نتمنى ان تقدم صحافية قناة الدنيا على الانتحار، ولكن هل أخطأت؟ فبكل تأكيد !
ليس دفاعا عن ميشلين عازار، ولكن يبدو أن المتهمة تحولت إلى المتهم في “رواية الغريب” لألبير كامو الذي قتل عربيا بدم بارد وعندما جيء به إلى المحاكمة صارت تهمته وذنبه عدم ذرف الدموع يوم جنازة أمه وليس قتل العربي. ما المطلوب الآن، وما هو الأهم؟ أن تحاكم صحافية الدنيا أم أن يُعرف من ارتكب هذه المجزرة ويحاكم؟ أليس الأهم أن نتسائل عن كيفية وقف آلة القتل التي تحصد المئات من السوريين يوميا؟
تُشن الآن حملة على عازار في شبكات التواصل الاجتماعي بينها الناقدة والساخرة والغاضبة، أما الدعوات الصريحة للاقتصاص منها وقتلها فهو أمر مرفوض ومستهجن خصوصا ان صحافيين يشاركون أيضاً في نشر مثل هذه الدعوات بغض النظر عن خطأها أو خطيئتها. الكثير من الصحافيين حشروا أنفسهم في حرب إعلامية بين الحكومة والمعارضة، هذا الصراع بات على أشده لكسب الفضاء العمومي لأن الاعلام هو نصف المعركة، والمعارضة من جانبها تحظى بدعم مطلق من العديد من الفضائيات العربية. هذه السياسات الإعلامية الخاطئة وضعت الأخبار عما يحدث في خانة أبيض أو أسود لا ثالث لهما. تعج صفحات الانترنت بآلاف الفيديوهات حول الأحداث الجارية في سوريا، فيها تفاصيل عن العمليات العسكرية والاشتباكات والقصف وكذلك الإعدامات والقتل من الطرفين وكلها موثقة ومع الأسف بعض التوصيفات في هذه الفيديوهات تحتوي على شيء من السوريالية في شرعنة القتل والذبح

المسؤولية الأخلاقية عن مذبحة داريا والكثير من الجرائم تقع على عاتق الأقوى عسكريا على الأرض، أما الجدل حول عرض جثث الضحايا والجرحى ففي ذلك شيء من المحال، لأن كميات الفيديوهات والصور والمعلومات التي ترسلها جماعات المعارضة الى وسائل الاعلام وتطلب عرضها على الشاشات هي ضخمة. فلماذا اذا سياسة الكيل بمكيالين حول موضوع عرض الجثث والجرحى؟
روبرت فيسك الصحافي الغربي الوحيد الذي استطاع الوصول إلى داريا، بعد وقوع المجزرة بمساعدة الجيش السوري، تحدث عن مفاوضات كانت تجرى بين الجيشين لإطلاق رهائن -أقارب جنود- احتجزهم “الجيش الحر” وسط انتشار كثيف لقناصته إلا أن القوات الحكومية اقتحمت البلدة بعد فشل المفاوضات. بكل موضوعية ومع الأسف، لم يعد أحدٌ يملك مفتاح الحقيقة في هذه “العتمة السورية”.
دكتوراه في الإعلام (جامعة بوردو)