طانيوس دعيبس
الإبتزاز.. الممالأة.. الإنحدار نحو لغة سياسية طائفية حصراً وشمولاً.. انهيار الحس بالمسؤولية العامة.. عناصر، أو بعض من عناصر الخطاب السياسي السائد لدى النخبة السياسية اللبنانية، في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها لبنان والمنطقة الشرق أوسطية عامة.
الإنتخابات وقانونها هي الشغل الشاغل لهذا الخطاب. إنما من زاوية جعل السياسة بأكملها نتاجاً طائفياً بحتاً. لا المشاريع السياسية مطروحة للنقاش، ولا الوضعية اللبنانية في ضوء تحولات العالم العربي، ولا الأفكار والخطط الإقتصادية أو الإجتماعية، ولا تلك المتعلقة بالمديونية العامة وبالوضع المالي.. لا شيء من ذلك موجود في صلب النقاش. وإذا تمت مقاربته بالصدفة أو لحاجات المماحكة، فبطريقة عابرة وغير معبّرة على الإطلاق عن أية جدية في الطرح. الهم الوحيد الحاضر،وبقوة تثير السخرية في بعض الأحيان، هو الطوائف والمذاهب وكيفية تمثيلها الصحيح في البرلمان.
المشكلة هي طبعاً في التمثيل المسيحي، لأن اتفاق الطائف تحدث عن المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وبما ان زمن العجائب ولّى، فإن علم الحساب غير قادر حتى يومنا هذا على اكتشاف معادلة في القانون تسمح بالتمثيل الصحيح وفق قاعدة الإقتراع الطائفي.فالمسيحيون هم ثلث عدد السكان وليسوا النصف. كان يمكن أن يتم تجاوز مفهوم عدالة التمثيل، والقول بمعادلة أنتخاب المسيحيين لنوابهم، حتى ولو أن الثلث هنا ينتخب النصف. لكن ماذا نفعل بالمسلمين حينها ؟ كيف ينتخب السني والشيعي والدرزي والعلوي مجتمعين النصف المسلم من النواب ؟ الجواب جاء به اللقاء الآرثوذكسي : فلينتخب كل مذهب نوابه !
لم نكن نعلم اننا قد نصل إلى هذا الدرك. لكننا وصلنا. ولو اقتصر الأمر على الإقتراح وأصحابه لهان. لكنه سرى كالنار في الهشيم. تلقفه الموارنة وشكلوا لجنة من دون الأرثوذكس أصحاب الإكتشاف درات به على “الشركاء في الوطن”. رفض “الشركاء” الإقتراح. فعادت لجنة بكركي، المشكلة فقط من الموارنة، لتبحث باي قانون أفضل تمثيلاً لجميع المسيحيين ( بمن فيهم الأقليات طبعاً ) ! من دون أن يغيب بالتأكيد شبح الإقتراح الجهنمي. ” إذا أردنا التمثيل الصحيح مئة بالمئة لا يوجد سوى اقتراح اللقاء الأرثوذكي ” ( الكلام للنائب سامي الجميّل، عضو اللجنة المكلفة التفتيش عن جنس الملائكة في قانون الأنتخاب ! ). وكرت السبحة. تصريحات من كل حدب وصوب مسلم باتجاه المسيحيين. حزب الله يوافق على كل ما يوافق عليه التيار العوني، الحليف المسيحي. تيار المستقبل يوافق على ما يرغب به مسيحيو 14 أذار. الرئيس بري يوافق على كل ما يتفق عليه المسيحيون. وكرّت الإقتراحات : 61 دائرة.. 50 دائرة.. اقتراح اللقاء الأرثوذكسي مسجلاً باسم نائبين موارنة من الكتلة العونية في قلم المجلس النيابي ( عود على بدء.. ).
” العصفورية” ( مستشفى المجانين بالتداول الشعبي اللبناني ) القائمة قيامتها بمناسبة الإنتخابات وقانونها، لا تحترم العقل والعاقلين. لا تحترم هذه الطبقة السياسية المهيمنة السياسة. ولا اللبنانيين بالتأكيد. هذه النخبة السياسية والمتحدثون باسمها يريدون حصر السياسة بالطائفة والمذهب. ويريدون إقناع الناس بان التمثيل الطائفي هو التمثيل السياسي الصحيح. تهميش السياسي-الإقتصادي-الإجتماعي- البيئي-الصحي-التربوي-الثقافي-الفني-الإبداعي.. تهميش المواطنة ومفاهيمها والدولة وبناءاتها الحديثة..تهميش الخيارات الكبرى المطروحة على العرب والمنطقة ومنهم اللبنانيون أساساً..فعل طبيعي بالنسبة لهذه النخبة الطاعنة في تطييف ومذهبة الإجتماع السياسي اللبناني حتى آخر حدود الإسفاف. والأنكى أنها في كل ذلك، لا تمثّل الطوائف التي تتحدث باسمها، وتحمل لواء النطق بمصالحها. إنها قوى طائفية تمثل نفسها ولا تمثل أبناء الطوائف. ذلك أن الحد الأدنى لتمثيلهم يقتضي العمل في سبيل تأمين مصالحهم كمواطنين. وما تفعله القوى السياسية الطائفية التي تدعي تمثيلهم، هو العمل بكل ما أوتيت من إمكانات من أجل إبقائهم رعايا.