- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

“ذاكرة في سحاب” لسامر منصور: سؤال الهوية ينتهي بالثورة

معمر عطوي

يحتاج النص المسرحي إلى جهد مضاعف يبذله الكاتب لتوزيع أدوار الشخصيات بما لا يتنافى مع السياق الدرامي، ويحافظ في الوقت نفسه على جوهر الحبكة التي تمسك بعناصر الرواية حتى لا يضيع الموضوع. هذا ما يمكن قوله في كتاب “ذاكرة في سحاب” للكاتب اللبناني سامر منصور، والصادر عن دار جداول في بيروت هذا العام.

لعل القضية الأهم في هذا الكتاب، أن صاحب رواية “ذاكرة الأوراق الآثمة” قد أبدع في صياغة أربعة نصوص مسرحية حوارية، تشكل في بنيتها التعبيرية قصائد شعرية مليئة بالصور والدلالات والأسئلة الوجودية. وقد يكون هذا الانتقال من رواية تمتعت بحبكة متينة وسياق درامي متماسك، إلى نصوص غنية بالشخصيات والمواضيع المثيرة للجدل، نقلة نوعية في مسيرة الكاتب الشاب الساعي لنقل هواجسه الى الورق.

لكن الأديبة هدى عيد اعتبرت في تقديمها لهذا العمل أن “ذاكرة في سحاب” “تظهر أقرب إلى ذاكرة جماعية منها إلى ذاكرة فردية… يبرزمن خلالها الذوب بالأرض (من ينثر خدّي الأسمر… فوق الجليل وحرمون… فأنساب في السفح موائد من نورٍ أبيض؟؟) وفيها تستحيل آلام الغربة كأساً من زيت وأشواق، قرباناً للوطن”.

هنا كانت الكاتبة عيد تحلل جوهر النص الأول “منفى في ذاكرة”، بعين الناقدة، سيما أن هذا النص العميق في تحليل جدلية العلاقة بين المنفى والوطن، يمكن اسقاطه على حالات عديدة من العقول المُهاجرة نحو الشمال، حيث ينبري سؤال الهوية قوياً أمام هول الذاكرة ومغريات الحاضر. ففي النص الأول تدور الحوارات بين شخصيات ثلاث هي أحمد وأممية التراب ووطنية التراب. حوار تتصاعد وتيرته بين أحمد، الشخصية الإنسانية، وشخصيتين معنويتين تمثلان هويتين قد تتقاطعان وقد تتناقضان، تتجاذبان أحمد الجالس في حديقة عامة في رومانيا مفتكراً مصيره بعد الموت.

إذن، “منفى في ذاكرة” هو سؤال الموت في المنفى، والارتباط الانساني بمحور الكون، فيما يبقى بعد نوستالجي يشده الى الماضي والأمكنة والأهل، من خلال الذاكرة المسافرة دوماً في سحاب لا يتوقف.

أما في النص الثاني، “وجدان في خطيئة”، فيعود الكاتب إلى أصل اختصاصه الأكاديمي كمحامٍ، طارحاً قضايا العدل والضمير والقانون والآداب العامة، من خلال شخصيات معنوية أيضاً وثلاث فتيات محتجزات في زنزانة: إحداهن خادمة تسرق خبز سيدها جوعاً، والثانية زوجة تقتل زوجها انتقاماً من ظلمه لها، والثالثة بائعة هوى.

هو حوار بين القيم والمبادئ السامية، والعدل والقانون وضمير المجتمع البشري وبين الفتيات الثلاث الآثمات، إذ تقدّم كل واحدة منهن دفاعها عن ما ارتكبته من جرم. ووسط هذه المناخات يُشعرنا منصور بلذة العودة لممارسة ما اعتزله منذ زمن، مستمتعاً بمرافعات قضائية هو ملم بها رغم بعده عنها الى أجل.

في النص الثالث، “رقصة الفأس والزيت”، يعود الكاتب الى أصوله الفلاحية فيقف مدافعاً عن التراب وعبقه في وجه المقاولين الذين يحولون الغابات الى مكعبات اسمنتية. هنا يتجلى هاجس منصور، إبن القرية الجنوبية الهادئة في سفوح حرمون، في معركة التاريخ ضد الحاضر. في هذا النص الذي تسير أحداثه في حقل زيتون، شاب يمثل دور المقاول الذي يسعى الى إقامة المشاريع العمرانية، وشجرة زيتون تمثل الطبيعة وتجترح نصال الدفاع عن البيئة وفأس يمثل ضمير الجماد.

يحاول المقاول قطع شجرة الزيتون المُعمّرة منذ العهد الروماني لأجل بناء منزل مكانها، فتنتفض الزيتونة ويبقى الشاب على إصراره رغم استعانتها بالحقل.. إلى أن يتمرد الفأس على زند الشاب فيأبى مشاركة الجرم في قطع الزيتونة وتنتصر الطبيعة في النهاية على أعمال المقاولات ومحاولة تدمير ما تبقى من الطبيعة.

لعل النص الرابع، “وإن حكى الاعصار”، مُستوحى من ثورات الربيع العربي، فمكان العمل هو
“أينما وجد الظلم” والزمان “الماضي والحاضر أو المستقبل.. لا يهم”. أما الشخصيات، فهي فتاة تمثل الثورة على الظلم والقيود التي تمثل الشعب المقهور والجدار الذي يجسد دور الدكتاتورية. تمثل كل واحدة من الفتيات حراكاً شعبياً حصل أو يجري أو سوف يحدث.

اما موضوع هذه المسرحية فهو الثورة التي تحث الشعب على التحرّر من ظلم الجدار أملاً بحريّة وخبز، كما يوضح الكاتب. النقطة الأهم هي تلك الحوارات التي تشكل جدلية العلاقة بين السلطة والمواطن والنقاش الذي يحمل فيه كل طرف ما يراه مبررات لاستمراره. هي رؤية موضوعية للثورة وسط التجاذبات والمحاذير التي قد تؤدي الى فوضى مدمّرة.

لكن في أي حال، نجد أن النصوص الأربعة سياق حياتي متواصل يبدأ من سؤال الهوية وعلاقة البشر بالتراب، والطبيعة وقضايا العدالة الاجتماعية والحق وينتهي بنشيد الحرية والقمح.