طانيوس دعيبس
كيف يمكن رصد المخارج لأزمة كتلك التي يمر بها لبنان اليوم ؟ الجواب : عبر ما تقترحه القوى السياسية الفاعلة، وعبر تتبّع إمكانية هذه المقترحات على التحقق. السؤال طبيعي والجواب منطقي. لكن المشكلة هي في أن الأزمة تتفاقم، ومقترحات المخارج العاقلة غائبة.
المقترح الوحيد الذي يبدو معروضاً هو “حكومة الوحدة الوطنية”، على ما درجت التسمية. وحتى الآن يظهر أنه اقتراح مستحيل. وإذا كان صحيحاً انه يعبّر عن تجاوب مشروط مع مطلب استقالة الحكومة الذي تطرحه قوى 14 أذار، فإنه بالمقابل يوحي بان مصدر الأزمة تتم مواجهته بتغيير حكومي، أياً كان نوع هذا التغيير. وهو أمر غير واقعي، وغير حقيقي. فالحكومة ليست لب الأزمة القائمة اليوم، لا في وجودها ولا في غيابها. ومطلب استقالتها هو مجرد تمويه للمطلب الأساسي الداعي إلى تغيير قواعد الإشتباك في الصراع الداخلي اللبناني. والبحث عن المخارج يبدأ من هذا الإعتبار.
لقد فجّرت عبوة الأشرفية مرحلة كاملة من الأزمة السياسية كانت بدأت مع إتفاق الدوحة عام 2008. تماماً كما سبق وفجّرت أحداث 7 أيار التي أنتجت ذلك الإتفاق المرحلة التي كانت بدأت عام 2005. والعنوان الرئيسي للمرحلة الجديدة هو الحدث السوري. ومن المفيد الإشارة إلى أن البادئ بالإخلال باتفاق الدوحة كانت دمشق بالتنسيق مع القوى اللبنانية الحليفة. لكن ذلك حصل وفق موازين قوى مختلفة عما هي عليه اليوم. لم تكن ثورات الربيع قد انطلقت، ولم تكن الأزمة السورية انفجرت بعد، والواقع السياسي اللبناني كان لا يزال محكوماً بمفاعيل التوازن بين المحاور المتواجهة في المنطقة. لقد حصل الإنقلاب على اتفاق الدوحة بأفق تطوير مفاعيل 7 أيار التي لم تتفعّل بالكامل في ذلك الحين بفعل معادلة السين سين الذهبية. تغيير الأكثرية النيابية كان ضرورياً لإحداث الإنقلاب. لكنه كان في الوقت نفسه محكوماً بطبيعته المغايرة لروحية 7أيار، بسبب حاجته لوليد جنبلاط ومن ثم لنجيب ميقاتي. كان بهذا المعنى انقلاباً ناقصاً. ولذلك دخل في أزمته بمجرد أن عبقت رياح التغيير في المنطقة وتغيّرت التوازنات التي أنتجته. وهكذا حصل الأمر الذي لم يكن في الحسبان: بدل أن تتم عملية تطوير مسار 7 أيار، تطورت وتفاقمت أزمة الإنقلاب على اتفاق الدوحة. وكان من الطبيعي في هذه الحال أن تتغيّر طبيعة الأكثرية التي استخدمت في إحداث ذلك الإنقلاب. لم تعد أكثرية مجمّعة، باتت اكثرية مقسومة على نفسها. توازنها هش، وتعتمد على صيغة التعايش السلبي بين عناصرها. والذي سعى من خلال هذه الأكثرية في البداية إلى الإمساك بالبلاد ومحاولة إعادت عقارب الساعة إلى ما قبل 14 أذار 2005، وجد نفسه محاصراً بسلطة قادرة على إعتقال ميشال سماحة ويغطيها ميشال سليمان ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط. بهذا المعنى كان إغتيال اللواء وسام الحسن عملية يائسة لتصويب مسار فلت من الإتجاه المرسوم له. غير أنه أدى بالنتيجة إلى فلتان الشياطين التي كانت ترقص على قبر اتفاق الدوحة. فمطلب التغيير الحكومي الذي ترفعه قوى 14 أذار اليوم لا يستهدف الحكومة بحد ذاتها، بل هو يستهدف في الجوهر ما تبقى من مفاعيل 7 أيار.
هذا هو مضمون فكرة تغيير قواعد الإشتباك. وهو المضمون الوحيد القادر على تفسير المواقف المتشددة التي عبرّت وتعبّر عنها قوى المعارضة، إذا صحّت هذه التسمية. فالقطيعة مع الحكومة هي قطيعة مع مفاعيل 7 أيار. وتغيير قواعد الإشتباك مبني على التغيير الكبير الذي أصاب التوازنات التي أنتجت تلك المفاعيل. وهو المضمون الذي تأخذه بالإعتبار مواقف القوى الأخرى، ومن بينها تلك التي تدعو اليوم إلى ما تسميه حكومة وحدة وطنية. فهي تريد تغيير قواعد إدارة الأزمة، للحؤول دون تغيير قواعد الإشتباك بين مكوناتها. وهذا المنطق ليس أولوية عند المتبارزين اليوم. فساحة المواجهة المفتوحة لا تحتمل في هذه اللحظة اقتراحات مخارج تقوم على إدارة مشتركة للأزمة، فاللحظة الآن هي للتصادم.