- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

نحتفل بحب لا يموت

فداء عيتاني

رحل الاثنان اليوم، الا ان ذكرى حبهما لا تزال في البيت القديم عابقة، الاب والابنة، وكلاهما ينتمي الى عالم من الخيال ومن النقاء الذي يكاد لا يصدق. محمد عيتاني وابنته ريما، في شخصيتين يجمعهما الكثير، من الابتسامة الدائمة، الى الحلم اكثر من الواقعية، وصولا الى القلب الطيب الذي لا يعرف الكره.

كان لا بد ان انتظر حتى تلد لي ابنة في هذه الحياة حتى اعرف سر حب محمد عيتاني لابنته، وكان لا بد ان اتعلم مع الوقت ان حب الرجل لابنته يفوق حبي لابنتي، وهو امر اكاد لا اتمكن من تخيله، وبالمقابل فانا اعرف اليوم حين اراجع ذاكرتي، وحين اسبح في الماضي الجميل والحنين الناعم بان الابنة احبت اباها كالصوفي المحب لربه.Image-05

لا تفارق ذكرى الرجل مخيلة الابنة، وحين كان حيا كانت صورة ابنته المسافرة للدراسة في تشيكوسلوفاكيا تتجسد في حياته اليومية كل الوقت، كان يناجي وحيدته الفتاة وهي تتعلم في الخارج طوال الوقت، يبستم حين يذكر اسمها او حين يدور الحديث عنها، ولمحمد عيتاني القدرة على توزيع عاطفته الفياضة بحيث لا يشعر احد من المحيطين به بغيرة او حسد او نقص في العاطفة. الا ان الحب الاكبر يبقى لهذه الابنة، التي تدرس في الخارج والتي يحمل وجهها الكثير من وجهه، وقلبها الكثير من قلبه.

وحين عادت الابنة كانت مدار حياته، اضافة الى الكتب والترجمات واعماله اليومية، وقراءاته وغرقه في خياله القصصي الذي يرغب في تخيله وسرده اكثر مما يرغب في بذل الجهد لكتابته، وحين تمر الابنة تعلو الابتسامة الطفولية على وجه الاب وهو يتابعها بنظره، متعلقا بالطيف المحبب له.

زوجته لا تزال تردد  ان ريما تشبه والدها في كل شيء، وكانت تقول انهما متماثلان، هو كان يخبرني عن روايات قرأها بالفرنسية، اللغة التي لم ارغب يوما في تعلمها، ويحكيني عن رواية يتماثل فيها الحبيب بالحبيب حتى التحول الى نسخ مكررة عن بعضهما، وانا انظر ولا ارى تكرارا في النسخ، ولكن ارى شخصين لا ينتميان الى هذا العالم، ولكنهما يشبهان بعضهما بالجينات، التصرف والحب والمثالية في التفكير والتصرف، غريبين رمى بهما قدر لئيم فوق سطح كوكبنا، ثم رحلا بهدوء.

محمد عيتاني مات بين يدي وايدي ابنته ولفظ روحه خلال دقائق قصيرة، حين تحدثت امي لاحقا عن وفاته قالت “مات كالعصفور”. ريما عيتاني ماتت على فراشها خلال نومها، ولم تبد عليها مظاهر الموت في الصباح، اخي قال لي انه اعتقدها نائمة ولكن لم يتمكن احد من ايقاظها.

بعد  موت محمد عيتاني كانت ريما تقول لي انه في كل مرة نتذكره كنا نبتسم، او حتى نضحك على طرائفه، وحتى اليوم لا يزال الرجل يحتفظ بذكرى ابتسامة عريضة، عريضة حتى انها تلغي كل التكشيرات التي كانت ترتسم على وجهه حين يمرض او حين تجن الطوائف في بيروت وتشتبك بالحديد وتشرب من دماء بعضها وتضطر محمد عيتاني الى الركون في الزوايا الامنة مع نظرة الخوف من النار الملتهبة خارج منزله الذي لم تدخله مرة الطوائف وافكارها السوداء. ابتسامته العريضة نفسها تمحي ازمنة الحزن الضاغط على القفص الصدري والكابت للانفاس كحين دخلت الدبابات الاسرائيلية الى بيروت واحتلت العاصمة وخرج هو يبحث عن شيء صالح للاكل في عاصمة منتهكة بعد صمود عجائبي لم يجد من يكرسه في خانة القدسي. تعود ابتسامة محمد عيتاني لتمحي كل ذلك ولتبقى الامل في الدنيا.

ريما ابنته تمر دائما كسهم نور في هذه الدنيا، ذكراها تضع الما في القلب، بقي خلفها الحب للبحر والسير الطويل على شاطئه في بيروت، الضحكة التي كانت ترسمها صبية في حياتنا، والحب لاب فقدته باكرا، الحب لاخوة تحار كيف تترجمه، خدمة او اهتماما ورعاية، دون ان يطلب منها احد اي شيء.

لذكرى محمد عيتاني ولذكرى ريما عيتاني ولحب لا يموت بموت الجسد ورحيل الاشخاص سنجتمع غدا السبت الساعة السادسة مساء في جناح دار الفارابي في معرض الكتاب  العربي، فقط لنؤكد ان في الدنيا ما لا يغيب عن حياتنا، وان الامل بالحياة الجميلة قائم مهما اشتد العنف والقتل والنزاع ومهما كثر الخراب.

بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة