- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

الحاضر القابع في الذاكرة

إميلي حصروتي –
أذكر عندما كنت صغيرة في لبنان وقد كان وطني يومها مقسوماً الى مناطق نفوذ ميليشياوية، كان همنا الأكبر أن نأكل و نتقي القصف و “لا نمد يدنا لأحد” كما كانت أمي تقول. كنت أعيش في حي مسيحي ضمن عقلية الفرز الطائفي التي قررتها تلك الحرب و كنت اسمع أن “الإسلام” أي المسلمين يريدون قتلنا و أن الفلسطينيين يريدون أكلنا، كان الأمر مخيفا، فالدروز أيضا كانوا يريدون موتنا و قد جلست منصتة مرار لخالتي التي نجت من مذابح الشوف فرارا عبر الحقول و هي تصف الجثث المذبوحة و المشوهة التي رأتها و كان بعضها لجيران و اقارب تعرفهم، فتصف لنا كيف كانت تتوقف لحظات لتغمض عيونهم الفارغة و ترسم اشارة الصليب قبل ان تتابع سيرها. في الحقيقة لا ادري كم كرَرت هذه القصة على مسامعي فكثر قصدوا بيتنا ليسألوها إن كانت قد شاهدت أحد أحبتهم الذي اختفى أو اختفت أخباره فكانت تغمض عينيها و تهز رأسها فتعلو شهقات البكاء و يغادر زوارنا الى حزنهم.
سألت أمي يوما “شو يعني مسلم؟”، “ليش يعني بدن يقتلونا؟”، لم تكن امي تملك جوابا، كانت سيدة بسيطة مرهقة خائفة تشتم كل من رأته بزي ميليشيا من الجيران و لكنها لم تكن تدري “شو يعني مسلم”. في إحدى المرات القليلة الهانئة في ذاك الوقت، كنا نتناول الغداء مما تيسر و تذكرت أمي صنف من الحلويات، السنيورة، و نظرت الى أبي و ذكرته يوم ذهبا الى صيدا لشراء جهاز عرسها حيث ذاقت السنيورة للمرة الأولى ثم اضافت “الإسلام (المسلمين) شاطرين بالحلو”. و فرحت، فأخيرا اصبحت أعرف شيئا عن الإسلام و المسلمين، هم في صيدا و شاطرين بالحلو.
تذكرت كل ذلك اليوم و أنا أتصفح تويتر. عادت لي ذكرى طفولتي المجبولة بالخوف من الآخر و أنا أقرأ تغريدات مفزعة انطلقت على خلفية مقتل ضابط و رقيب في الجيش اللبناني في منطقة سعدنايل على الحدود السورية أثناء مهمة للقبض على مطلوب للعدالة. رأيت أمامي ماكينة للحقد تتوالد بسرعة و بقوة قياسية. شيعي يكتب عن وحشية القتلة الذين نكلوا بجثث شهداء الجيش، سني يذكره بمقتل ضابط طيار سابقا على يد حزب شيعي، مسيحي ينتفض لكرامة الجيش و يولع طرقات المدينة لدعمه، فتيات يصرخن رعبهن من السلفية القادمة مع النقاب و السواطير و فتيان يعرّون أمهات بعضهم باسم هذا المذهب أو ذاك. أغمضت عيني عن شريط تحديث التغريدات و ضميت قبضة يدي كي لا أكتب حرفاً واحداً، أخاف من أصابعي حين تكتب الحقيقة كما أراها، أصابعي التي اتّحدت مع بصماتها كل ذاكرتي فأصبحت هويتي و ما عادت تستطيع الكذب.
إن لبنان الآن مضطرب و تبدو قيادته نسخة عنه، هناك من يطالب الجيش بالرد على الفزع القابع في الصدور و يقولون إنه الضمانة الوحيدة للبنان و إنها المؤسسة الوحيدة التي تجمع كل أطياف الوطن لكن هناك من يقول أيضا إن المؤسسة العسكرية تعاني من الوضع السياسي الرديء و يحدث أحيانا أن يتمزق ولاءها انشطارا بين ضفتي الانقسام السياسي. برأيي أنه لا داعي للتكاذب، لا داعي لإخفاء ما نشعر به و ما نراه هنا و لا نراه هناك. إن كان الجواب لكل مآسي الوطن هو الجيش الوطني فليكن ذلك بشكل نهائي، و لتضع قيادة الجيش تاريخا و ساعة صفر للجميع لتسليم أسلحتهم بالتزامن مع تشكيل ألوية مقاومة تحت إمرتها ضمن هيكلية يتفق عليها لحماية مكتسبات و مهارات المقاومة التي يقودها حزب الله حتى اليوم. لقد وصلنا الى طريق مسدود مع جنون التسلح الذي طال كل الافرقاء، أي حلّ غير تسليم السلاح و دمج المقاومة بالجيش هو استغباء للشعب و إطالة لأمد التوتر في خدمة أطراف غير وطنية. لا شك أن الحسابات الإقليمية ستعكر عليّ فرحة الحلّ السحري لكل آلام لبنان و لكني أجرؤ على الأمل بأن جلجلة آلام اللبنانيين ستعرف طريقها الى الحلّ أقرب مما كان الجميع يتوقع.