- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

حسابات جنبلاط والهروب إلى التقاعد

بيروت ــ بلال سيف الدين
على عكس ما يقول، قليلة هي ثوابت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، خلال رحلته في السياسة اللبنانيّة، ساوم على كل شيء، تقريباً. وبالمعيار «الأخلاقي»، يحسب له أنه لم يساوم على القضية الفلسطينية مثلاً، ولم يشترك في الحروب القديمة، والجديدة، ضد اللاجئين الفلسطينيين، حتى بالمعنى الثقافي لتلك الحروب، لا بأبعادها السياسيّة وحسب. وقد كلفه الأمر ما كلفته إياه وراثة الحرب الأهليّة عن والده. في غير ذلك، لم يبق جنبلاط شيئاً. وفي أي حال، بمعزل عن سمة التقلبات الجذرية، التي تميّز الزعيم الدرزي، فإن قياس موقع جنبلاط من زاوية شعبيّة، خارج الإطار اللبناني المذهبي العام، ليس في صالحه، حاله حال الزعماء المذهبيين الآخرين. كثيرون هم من «يستخفون» بالحديث أخيراً عن تخليه عن الزعامة، حتى ولو كانت لنجله الأكبر، إذ يعدّ صيت النائب الاشتراكي «ملوثاً» بفعل خطايا الحرب أولاً، وبسبب احتلاله مواقع ريادية في الحكومات الحريرية بعد الحرب. وعلى هذا القياس، تم التعامل دائماً مع مواقفه على أنها موضع التباس، محكوم بنظرة الأقليات إلى السلطة، من دون أن ينفي ذلك أن كثيراً من المتابعين يرون أن جنبلاط قضم من كعكة المحاصصة اللبنانية أكثر من اللزوم.
يقول المقربون منه أنه يقرأ الوضع السوري اليوم، بذات الطريقة التي قرأ فيها الاحتلال الأميركي للعراق، لجهة التداعيّات. خابت قراءته في المرة الأولى، لكنه مقتنع أنها في سوريا… تميل إلى الصواب.

مظلة حزب الله
خدع وليد جنبلاط الجميع ولم يخدع أحداً. ففي بنت جبيل، لم يقنع أحداً بولائه الأبدي لمنطق المقاومة المسلحة على طريقة حزب الله. وفي 14 آذار، بدا ثوب الثائر فضفاضاً على سيد المختارة. لم تسعفه الكاريزما في محو صورة الحليف الصلف للنظام السوري. لكن جنبلاط ساحرُ. وحتى في صورته الأخيرة، أو ما قبل الأخيرة، بقصر المهاجرين، كان الجميع يعلم أنه يجلس في ذلك الكرسي رغماً عنه. ولعل محاولات جنبلاط الأخيرة بالظهور مظهر «الليبرالي» الداعم للثورات العربيّة، هي الأقرب إلى حقيقته، التي لم تتح له تعقيدات لبنان أن يكونها يوماً ما. فهم العالم جنبلاط، بعدما سبقه جنبلاط إلى ذلك باكراً. أخيراً، البيك، قرر التقاعد نهائياً.
المقربون منه يقولون إنه تعب من الآخرين. الآخرون من أقرانه الزعماء. لدى الزعيم قناعةُ راسخة، مفادها بأن الزعماء اللبنانيين التقليديين لم يعودوا قادرين على قراءة المتغيرات الجنونيّة في العالم. ولا ينكر هؤلاء، أن جنبلاط يعاني ما يعانيه التقليديون. طبعاً جنبلاط ليس تقليدياً. لا لأنه أتى إلى الزعامة على دراجة نارية ولا لخفة ظله، بل لأنه فريد في مقارباته ومباغت دائماً. وفي سيرة المباغتة، شكل حديثه التلفزيوني الأخير على قناة المنار، التابعة لحزب الله، صدمةً كبيرة لقيادات الحزب. فقد أطلق في ذلك الحديث سلسلة من التصريحات الرافضة لقمع المتظاهرين السوريين، التي لا يستطيع الحزب تحملها. وتجنباً لظهور جنبلاط بمظهر ساعي البريد، كونه أمضى الليلة التي سبقت الإطلالة المسائية على المنار بصحبة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مكثراً من تناول الزيتون وشرب الشاي، سارع الحزب إلى عرض استيائه من الزعيم الدرزي، عبر أكثر من قناة اتصال. ولكن العارفين بما يجول في بال رئيس الحزب الإشتراكي «للسنة الأخيرة» يعرفون أنه حسم خياراته في الموضوع السوري. ومهما كان حديثه منمقاً، فإن الرجل «لم يعد خائفاً من نظام الأسد». اكتشف أن عدم التعرض للحزب الحليف لسوريا في لبنان، يوفر له ما يشبه المظلة الأمنية «مرحلياً». غير أن المظلة قد تُثقب بفعل العواصف المقبلة. وحينذاك، لن يتوقف الأمر على قمصان سود ومناوشات منبريّة. جنبلاط يبحث عن حل جذري: التقاعد.

بيت صغير في باريس
يتحدث جنبلاط كثيراً عن التقاعد. الإحباط الأخير الذي تلى أحداث السابع من أيّار كان حاسماً. فجأة، بدأ نجله الأكبر تيمور يظهر في الصورة، حين يكون الموعد كبيراً. وفجأة، يصبح الوزيرـ القريب جداً من جنبلاط، غازي العريضي، مسؤولاً شبه مباشر عن التواصل مع قيادة البعث السوري. تدريجياً، بدأ جنبلاط ينسحب من الأزقة اللبنانية، ويوسع رقعة اهتمامته، عائداً إلى عالميّة والده اليسارية، مع الفارق الكبير في الحيثية، وطبيعة الدور. وليد جنبلاط لا يريد أن يكون أكثر من متحدث، أو صاحب رأي. ومن هنا، تبدو خطوته في شراء منزل بالعاصمة الفرنسية، باريس، كلفه ملايين اليوروات، أمراً مفهوماً. ومن باريس، تصبح الآراء أسهل، أكثر قبولاً. طبعاً يصر المقربون من «أبو تيمور» أن الرجل لن يطلّق السياسة اللبنانية طلاقاً بائناًاً، على العكس من ذلك، سيتابع الزعيم القديم، عن بعد، رحلة تيمور وليد جنبلاط. ووفقاً لهؤلاء، ما يشاع في أوساط المقربين من البعث السوري، عن تحول وليد جنبلاط إلى عبد الحليم خدام لبنان، خيالاً مبالغ فيه. باريس مكان للتقاعد وحسب.
وللمناسبة، اختيار جنبلاط للأمكنة التي يسكنها، أو يعلن منها مواقفه، كانت دائماً ذات مغزى. فمن بنت جبيل، نفسها، أعلن انتماءه إلى مقاومة حزب الله. ولاحقاً، بعد تجربة «العمل الثوري» في 14 آذار، اختار البوريفاج، وما يمثله من تكريس لهيمنة البعث السوري على الدولة اللبنانية، ليعلن انتقاله إلى موقع الوسط. ولم يكن وسطاً بل كان «بوريفاجاً». إذ حسمت خياراته تشكيل الحكومة المتبنية لثقافة الحزب الإلهي، ومشروعه الأيدولوجي. وخلال المؤتمر الأخير، تفاجأ الجميع باختيار عاليه. منذ زمن لم يحدث هذا المؤتمر في قلعة الدروز بلبنان الحديث. قرر الرئيس ذلك وأعلمهم بالأمر، متذرعاً بالأسباب الأمنية. والحديث عن أسباب أمنية، وحده كافٍ لإثارة الجدل حول مواقف زعيم الجبل. ومن هناك، أعلن أنه سيبقى رئيساً لعامٍ أخير. أي أنه بدأ في المختارة وانتهى في عاليه. لن يتقاعد جنبلاط خارج طائفته، التي قضى فيها جلّ حياته. ولذلك، قد تكون الرحلة إلى باريس شاقة. وتخلي جنبلاط عن طائفته لا يعني العكس اطلاقاً. فهو مسكون بدرزيته وهي مسكونة فيه.

المواقف الأخيرة: الأسد سيسقط
يجزم جنبلاط، بحسب مقرّبين منه، أنّ «النظام السوري تضعضع». لم يعد الأخير قادراً على تهديده، كما في السابق، ما أدى إلى خسارته موقع «المايسترو» في 14 آذار، ما أدى لاحقاً، إلى انهيار ذلك المعسكر انهياراً تاماً. لقد خلف جنبلاط فراغاً معنوياً كبيراً عجز الجميع في ذلك الفريق عن سده. وتصريحات نواب الأكثرية السابقة «الناعمة» بحق جنبلاط، دليل على حاجتهم إلى دينامكية سيد المختارة. وبرأي هؤلاء المقربين، الحديث عن تمايز اشتراكي «نكتة». التمايز كان خوف «البيك» من البعث، لا أكثر ولا أقل. أخيراً، بعد عشاء المصالحة، مع «رفاق العمر»، في منزل النائب مروان حمادة تحديداً، سحر جنبلاط الجميع بنقده القاسي لأداء القيادة السورية الحالية، مقتنعاً بترنح النظام، وعدم قدرة الوجوه الحالية فيه على مقارعة الضغط الدولي المدروس. ورجل مثل أبو تيمور، لا يقع في شرك الغرب. يعرف جيداً هذا الغرب ومصالحه، وينطلق من منطلقات والده «الثورية» للدفاع عن الحراك العربي. يطيب هذا الكلام لقدامى الأصدقاء في 14 آذار، رغم أن هؤلاء غير معنيين بمغزى الحراك الشعبي، أكثر ما يعنيهم سقوط الأسد ونظامه. وعلى الضفة المقابلة، يؤكد المتابعون أن جنبلاط سمع كلاماً واضحاً من الأمين العام حزب الله، يؤيد فيه الأسد، ويرى أن سقوطه ضرب من ضروب الخيال. إلا أن ثمة النقاط الأساسية، في مقاربة جنبلاط، تبدو لافتة أكثر من غيرها، وهي:
1- تخلي جنبلاط عن منطق الأكثريات والأقليّات، الذي دأب على الاستناد إليه عند أي انعطافة، إذ يذكر في مجالسه الخاصة أن الحالة السلفية «مضخمة في العالم العربي»، ما يستدعي الوقوف خلف الثورات من دون أي تحفظ. وفي هذا الإطار، انتقد وليد جنبلاط نفسه، أمام حشد من نواب «اللقاء الديموقراطي»، مبدياً ما يشبه الإمتعاض من مواقف البطريرك الماروني الجديد، بشارة الراعي.
2-في حال تأكد سقوط النظام السوري، فإن جنبلاط يميل إلى «تحالف الدروز مع القوى الأكثرية الجديدة الحاكمة» والتي لا يرى أنها ستكون سنية صافية، فمثل هكذا تحليل يُظهر الموارنة والشيعة كجماعات منقرضة أو مهددة بالعيش مع الأصولية، وهذا الأمر لن ترضى به إيران (ستبقى قوية في رأيه) أو حتى الغرب. ويبرر تحليله هذا، بأن تجربة تحالف الأقليّات الدينية في المنطقة، أسهمت في ما أسهمت، بتثبيت منطق الطوائف على حساب الدولة الديموقراطية.
3-بعيداً عن الأحداث الحالية في سوريا، فإن زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، سمع كلاماً كثيراً، في محطات سابقة، من واشنطن، يؤكد حتمية سقوط نظام الأسد. وفي هذا الإطار، يتعامل جنبلاط مع معطياته السابقة ببراغماتية مطلقة، إذ علمته تجربة 14 آذار عدم الوثوق بالولايات المتحدة الأميركية، بيد أن افراطه في الليبرالية أخيراً، يقنعه بزوال الأنظمة الشمولية.
4- لم يعد الرهان على العلاقات الشخصية قائماً في حسابات جنبلاط. فبعد «كسر الجرة» مع السيد حسن نصر الله، بات جنبلاط موضع حذر دائم من الجميع، وهو يعرف ذلك، رغم أن الحزب يحرص على عدم قطع الخيط الرفيع معه. وبالنسبة للرئيس السابق للحكومة، سعد الدين الحريري، فالأمور مختلفة تماماً، وجنبلاط مقتنع بـ«سهولة اصلاح العلاقة مع الزعيم الشاب، على قاعدة الموقف المشترك من الأحداث في سوريا». وفي هذا الإطار، يصر أحد المقربين جداً منه، أنه لن يتخذ موقفاً عدائياً من الحزب في حال تقاعده، من دون أن ينفي المصدر أن جنبلاط «قد يغيّر رأيه في أي لحظة».