طهران ــ زاهر العريضي (خاص)
بداية اللحظة الأولى، يسري في خيالي سؤال عن وجودي هنا. أين أنا؟ وإلى أين؟. المدينة مقفلة، والساعة حائرة في ليل هذه المدينة. الجوع يتآكلني، روائح التلوث تملأ رئتي، والطريق إلى الفندق بعيد.
تنام المدينة باكراً، وأنا وطواط هذا الليل، بالرغم من هلعي من العتمة. الفندق في هذا الوقت بعيد عن ناسه. لا صوت فيه ولا حركة. كقصر تعمّد أهله أن يهجروه ليلاً.
سأبتلع هذا الليل ببعض سجائر وبلا كحول. يخطر في بالي قصص كثيرة، تقترب مني ذاكرتي وأنا في مكان غريب.
سأبوح بالكثير هنا، بالرغم من أنكِ بعيدة. سأحاول أن أرسم لك بلون هذا المكان، وأنا أتجوّل في أزقته وأستدرك لغته وأمشي من طاقته.
هذه المدينة بحدائقها وناسها تحب الحياة، وربما أكثر من ذلك.
كفرٌ أن أبوح وأخاف من اغتيالها لو يتجرأ لساني على الإلحاد . يصعب أخذ انطباع سريع عنها، المدينة تغوي وتغري ولا تمدنا إلا بالحيرة. هناك أشياء مشتركة بيننا، لا أستطيع أن أحددها تماماً. أتفاجأ أحياناً، وأحاول أن أسقط الصور المسبقة.
أنا الآن في شوارع كبيرة، أكثر ما يثير انتباهك هنا هو الحجاب، جميع النساء هنا يلبسنه ويغطين نصف رأسهن فيبقى شيء من شعرهن مكشوفاً، كما يهل الضوء من النصف المخفي من القمر، أحياناً.
تمشي النساء في شوارع طهران كأنهن متأخرات عنها، فيسرعن إليها.
إمرأة تقود السيارة ليس بغريب، وأخرى تحمل على كتفها الكاميرا وتصوّر. تلتقط صوراً لحدائق كيفما تحرّكت.
الحدائق هنا ثقافة، الورود بألونها عادة.
تلتقط صوراً للجبال المزركشة قممها بما تبقى من الثلج الأبيض لهذا الربيع.
وحين تنظر إليها (المصورة)، تشعر أنك في الباطن، أنك في العمق، أو في متن فنجان القهوة، تسرح بالهال ويعجبك المزاج.
وتتفاجأ بانك تنظر عالياً وانت على ارتفاع ألف متر وأكثر.
هذه الجبال تثير في داخلك روح المغامرة. جنون التسلق!
وبالقرب من تلك الجبال، يحكون لك عن كبار السن كيف يتمتعون بتسلقها، من كل الإتجاهات منذ الصباح الباكر، بكامل نشاطهم وهدوئهم، فتشعر أنك عاجز ورجل من كرتون. لكن المصوّرة الجميلة لم تلتقط هذا المشهد بآلة تصويرها.
تذكّرني إيران بأميركا، طهران بواشنطن، لا أخرّف ولا أبتدع ذلك.
أشعر بغرابة لمقارنتي، ولكن ذلك حدث. حين كنت أنتقل بين الشوارع المواجهة بالمصعد الكهربائي لاعبر الجسر.. أسمع موسيقى بالأنحاء، عازف الكمان يجلس على الجسر، ويعزف مبتسماً للعابرين وأمامه وعاء للنقود.
هذا المشهد كما في نيويورك واشنطن، يتنقل العازفون بين محطات الميترو والأرصفة الضيقة. لكن عازفي الشوارع في اميركا
لو شاهدوا كيف امتلأ وعاء عازف طهران بالنقود لجاؤوا إلى هنا.
التشابه يتكرر في الشوارع والحدائق والخضرة واكثر من ذلك، أستمتع بتفسيراتي البسيطة لشراهة البناء والأفكار والتفاصيل في طهران. البعد الروحي والعمق الثقافي والسياسي والديني يحومون حول أجسادنا.
كيف لدولة دينية أن تكون متطورة؟! سؤال مر في مخيلتي فجأة.
دولة تحيك التاريخ بصمت وتحيك السياسة بهدوء. هنا، أسئلة كثيرة لا أستطيع أن أدفنها. حتى الله لا يزال سؤالاً! جوابه.. الله موجود في قلوب الكثيرين من المؤمنين وحتى الملحدين.
طهران لا تنتهي هنا، بكل حيّ فيها سؤال. من الغباء والبرودة أن تبقى هذه الصورة سجينة، كإمرأة تخبئ نصف وجهها الأجمل.
هنا طهران، ومزيج من التناقض يساورني، أحتاج إلى الهدوء، وأنا على عجل من أمري. لا يمكنني الإنتظار لأرى السجاد بعد هذه الحياكة الممتعة هنا. نحن جيل الوجبات السريعة!
تمتلئ أمعائنا من دون متعة بطعم ونكهة ولذة. ربما في عيون بعض العابرين جوع وثورة أخرى، وفي داخلهم لغة تحتاج من يفككها، ليصير البوح أبسط.
طهران تشبه اللوحة التي بدأت برسمها لكِ للتو. أين أنا؟ وإلى أين؟ طهران أكثر المدن غواية وجدلية وغموض وربما تخبأ نصفها الأجمل والغامض منها كحجاب نسائها.