عصام حمد*
في “وقته الضائع”، في مدينة برلين، استلقى الصحافي الشاعر معمر عطوي على السرير في غرفته – يتأمل: في الخارج الطقس بارد. بارد برودة مناهضي العولمة إذ يتناولون وجبة ملكة العولمة السريعة. بارد برودة الثورة في صورة غيفارا التي باتت زينة لحقائب المراهقين. بارد برودة الموت في جماجم تكلل صدوراً عارمة.
على الطاولة شكاوى الدول النامية على البنك الدولي. ومسيرات احتجاجية. وصفحات ثقافية.. كل أولئك بلا جدوى كهذه السيجارة التي لم تشتعل وإن جربنا عليها العشرات من أعواد الثقاب التي تملأ المنفضة.
معمر لا يقول لكنه ينطق الأشياء بأعقد المعاني: في الزاوية حلم وصورة ثائر وكوفية عربية على خريطة، تلك الخريطة من النهر إلى البحر، أتذكرونها؟
نعم.. نذكرها لكن مرة في السنة عندما يرن هذا الهاتف العتيق في عيد ميلاد الشاعر!
على شرفته تعتلي “الدربزين” لغته مهددة بالانتحار ما دامت لا تستطيع أن تكتب أي شيء يقيني.
ويعود شاعرنا إلى سريره، إلى هذه العذراء الألمانية التي تنتظره ريثما ينتهي – كعادته السرية – من تأملاته العربية.. يرنو إلى شعرها الأشقر معتذرا ويقول لها بلغتها مبتهلا:
يا حلمي الواقع!
في قصيدة “كزهر الياسمين” يرسم لنا عطوي الحياة برفقة “الآنسة” فيينا.. أم تراه يقصد فيينا المدينة؟ ما أبدع هذا الالتباس! العطر الفواح وقطرات الندى.. ثم إنها لا تكترث لضجيج السكارى وعربدتهم تحت نافذة حجرتها في الحي العتيق!
في “وعد أثينا” فيلسوف يرثي الفلسفة – وشاعرنا حامل إجازة في الفلسفة – ويحزن لما آلت إليه حكمة سقراط ومنطق أرسطو ومدرسة أفلاطون في زمننا هذا، زمن العولمة واقتصاد السوق. يتساءل: أين صوت سقراط ينادي بالحقيقة؟ ثم يخلص إلى النتيجة المحزنة: ما عاد لنا شيخ حكمة!
في “خديعة” يكشف الشاعر لنا سر الكابوس الذي يساورنا في غفوتنا، والالتهاب الذي يحرق جرحنا، ودواعي البكاء غير المفهومة التي تقف بنا بكائين على الأطلال – نحن العرب- إنها الخديعة! هي هي التي ضللتنا بين الأمم. وأرسلتنا ضائعين في أرض غريبة، من غير تعويذة سفر حملها مرة امرؤ القيس في بحثه عن ملكه. يصهل جوادنا مستغيثاً ولا مجيب من كنعان أو عدنان. أما قحطان فقد “اعتزل نار الوليمة والسهر”- إشارة لطيفة إلى تنكرنا لمروءتنا المنسية.
في “بيروت” مدينتنا، التفاحة المشتهاة التي تتحول قنبلة في أفواه الغزاة، وسمّاً، ومخارز.. حتى إذا أتاها بعض أبنائها بشركة إعمار اختفت مسارحها وصالات الفقراء، وذبلت التفاحة على أمها!
في “أبياتي الأخيرة” التي كتبها الشاعر لعينيها- ثورة على المُقدّس بسؤال: أأنت أيها المقدس ضد حلمنا؟ أشرطي للكآبة أنت؟ ما أنت إلا وهماً جعلناه جرحاً ووجعاً مزمناً. غصصتنا بتفاحة الخطيئة. وأحكمت عقدة العفة في نفوسنا، وأرعبتنا من اللقاء حتى جنّنت قيسنا بليلاه، وحرمت جميلنا من بثينته!
لقد جمع لنا عطوي هذه الشذرات – التي كان ينشرها متفرقة في الصحف – بين دفتي كتاب بعنوان “وقت ضائع” – وما كان أجدره أن يسميه “وقت ثمين” لأنه لا يضيع أبداً وقت من يقرأه.
* روائي وقاص لبناني