معمر عطوي
رغم كل ما يُحكى عن الصحافة وأهميتها في الدفاع عن حقوق الناس وطرح ظلاماتهم، لم أكن أعرف في لبنان عن هذه المهنة التي أمارسها منذ نحو عشرين عاماً سوى أنها مهنة المتاعب التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.
لكن هذا الأسبوع حصلت معي قصة سيئة وجميلة في آن، إذ رغم ما عانيته في إحدى الدوائر الرسمية من مشاكل روتين إداري ومحاولة استغلال لدفع رشوة لقاء رفع رهن عن سيارتي التي كانت أسيرة سندات مصرفية، اكتشفت كم هي مهمة مهنتي حتى في بلاد الأرز التي لا تعرف تنفيذاً لقانون ولا تطبيقاً لمسلكيات وظيفية.
فبعدما تبين ان ضبط وقوف قد حُرّر بحق سيارتي ولم أكن قد شاهدت صورة هذا الضبط اصلاً، ظهرت مشكلة أخرى تتعلق بضياع ملف السيارة من رفوف “النافعة”. طبعاً لم تكن الأمور لتسير لولا مساعدة أحد الموظفين الأصدقاء. إذ دفعت قيمة الضبط المالي مضاعفة الى رسوم الميكانيك عن سنة 2013، لكن مشكلة الملف لم يستطع “إبن النافعة” الذي يفترض أنه أدرى بشعابها، أن يحلّه متذرعاً بأن التفتيش عن الملف يحتاج الى وقت والحل بتحرير تعهد لتكوين ملف جديد عند كاتب العدل.
هنا كان من الضروري أن أتذكر مهنتي وسيفها الذي لم امتشقه طوال عشرين عاماً من عملي في المتاعب. فقد دخلت الى رئيس القسم وطالبته بايجاد الملف “لأن إهمالكم ليس من مسؤوليتي، وأنا أتِ من بيروت الى البقاع بهدف انهاء هذه المعاملة ولن أعود الا بعد أن افك الرهن عن سيارتي”. ولما حاول رئيس القسم أن يقنعني بأن الأمر يحتاج الى وقت للتفتيش بسبب عدم ترتيب الملفات وان بامكاني حل المشكلة بتوقيع تعهد عند كاتب العدل، أجبته فوراً لن أدفع ولا قرش زائد بسبب إهمالكم أنا صحافي في جريدة يومية وسأتناول هذا الموضوع في الإعلام.
هنا بدت فوبيا الصحافة مرتسمة بوضوح على وجه الرجل الذي كان منذ قليل “حاكماً بأمره”، فعاد ليتحدث بمنطقة المساومة والليونة، طالباً من موظف الأرشيف التفتيش عن الملف بأسرع وقت. ولما فشلنا في ايجاد ملف سيارتي أنا والموظف الجالس بين أكوام الملفات المبعثرة والغبار، أبدى رئيس القسم استعداده لحل الموضوع بتعهد تكوين ملف أوقّعه أمامه من دون الذهاب الى كاتب العدل. ويشير في هذا التعهد الى الرجوع الى المعلومات الممكننة. بمعنى أن تُقضى المسألة بألف ليرة ثمن البيان وخمسة آلاف طوابع وتم لي ما أردت بعد أخذ ورد وتجاذب بين الرئيس وموظفين يبدو أنهم مدعومون من نبرة صراخهم التي توحي بأنهم يعيشون في مستشفى امراض عصبية لا دائرة حكومية.
المفارقة أن حجة الملف حجة واهية في ظل ما تعلن عنه الدولة باستمرار عن مكننة الدوائر الرسمية، إذ أن السؤال عن الملف المعلوماتي في أجهزة الكمبيوتر يأتي الجواب عليه “نحن لسنا في أميركا”.
رغم أن كل المعلومات الموجودة في الملف الورقي متوفرة أيضاً على الشاشة الصغيرة. لكن يبدو أن لكل امرءِ ممن دهره ما تعود وعادة موظفينا الرسميين الاستمرار في تشديد الإجراءات بهدف الحصول على رشىً أكثر من المواطن. لكن حادثة كهذه تعيد المعنويات الى الصحافة كسلطة رابعة تؤكد أن اصحاب مهنة المتاعب يمكن مساهمتهم في التغيير ومعالجة الفساد فيما لو تم اصلاح رأس الهرم. لكن اذا ظل رب البيت على الدف ضارباً، فما شيمة أهل البيت الاّ الرقص.