- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

من العثمانيين إلى الإسلاميين: تركيا قوة إقليمية مستديمة

alain_gresh3ألان غريش

كان لتركيا في التاريخ المعاصر تأثيراً كبيراً على القارة الأوروبية وعلى التحولات فيها، لا بل أن تركيا شكلت جزءآًمن تاريخ أوروبا رغم محاولات نكران ذلك وطمر هذا الدور في غياهب الذاكرة. إن مسرحية «السيد البرجوازي» لموليير تشهد على هذه الحقبة عندما تروي كيف استقبل بلاط لويس الرابع عشر مبعوث «السلطان التركي»، وكيف كانت الاستانة تبث الرهبة والإعجاب سوياً في باريس ولندن وفيينا.
بعد الحرب العالمية الأولى كادت تركيا أن تختفي من الخارطة، بعد أن ضحت بها القوى العظمى المنتصرة عندما تقاسمت أشلاء المهزومين، فكانت نتيجة المساومات الدنيئة تقطيع أوصال حدود الشرق الأوسط الحديث. وقد نجت تركيا عندما استيقظ شعبها تحت قيادة مصطفى كمال الذي لقب بـ«أتاتورك» أبو تركيا. وقد فرض أتاتورك نظاماً حديثاً يحمل تلويناً علمانياً ومنفتح على أوروبا ويحلم بقطعية مع الأرث الإسلامي. وقد دام هذا النظام بعد وفاة أتاتورك عام ١٩٣٨، واحتل مركزاً في النظام العالمي الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية. ودخلت تركيا الحديثة حلبة الحرب الباردة الموجهة ضد الاتحاد السوفياتي وانضمت إلى الحلف الأطلسي. وسلكت مسار اليبرالية وتعدد الأحزاب تحت رقابة صارمة من الجيش الذي يعتبر نفسه عين الأتاتوركية على مصير البلاد، والتي لم تتردد من وضع يدها على السلطة لتعيد ترتيب الأوضاع كلما تتطب الأمر.
إلا أن نهاية الحرب الباردة وتسارع نمط العولمة ومحاولات االاندماج في الاتحاد الأوروبي منذ ١٩٨٧ زعزعت بنية الكمالية المنعزلة والسلطوية. فباتت البلاد تطرح الأسئلة حول هويتها وموقعها في المنطقة وفي العالم. هذه المتغيرات وعمليات فحص النفس قادت إلى انتصار حزب العدالة والتنمية عام ٢٠٠٢، وهو تنظيم «ما بعد استلام الإسلاميين السلطة» (postislamiste)، وهو ما أوصل في السنة التالية رجب طيب أوردوغان إلى موقع رئاسة الوزراء. في فترة عقد واحد هيمن الحزب على الحياة السياسية وفاز بالانتخابات لثلاث دورات متوالية حاصداً ٥٠ في المئة من الأصوات بمشاركة ناخبين تجاوزت الـ ٨٧ في المئة.
مرد هذه الانتصارات التي لم تعرفه تركيا سابقاً هو النجاح الذي حقته البلاد على الصعيد الاقتصادي وباتت تحتل المركز السادس عشر بيت الدول الأكثر تقدماً. فقد رافق طلب الانظمام إلى الاتحاد الأوروبي إصلاحات سياسية وديموقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته. وقد جرى تحطيم محرمات ببدء التفاوض مع تمرد حزب العمال في كردستان وهو ما فتح نافذة أمل لحل المسألة الكردية الملحة. وأخيراً بسبب ديبلوماسية نشطة وكثيفة في كافة الاتجاهات من أفريقياً إلى وسط آسيا مروراص بالتصدي لإسرائيل أنبت «المديل التركي» الكثير من الغيرة خصوصاً في الدول العربية.
رغم ذلك فإن التناقضات والمسائل غير المحلولة كانت لا تزال موجودة، وخلال أشهر قليلة بات «المدويل» المرغوب فبات مكروهاً. حتى ولو وضعنا جانباً التهييج الإعلامي لا يمكن إلا الاعتراف بأن السلطة التركية تمر بمرحلة دقيقة. فقدجمد  خوف أوروبا من استقبال ٩٠ ميون مسلم المفاوضات للانتساب للاتحاد الأوروبي و نزع عوامل الدفع للإصلاحات السياسية. وفقد الموديل نيو-ليبرالي زخمه وبقيت الفوارق الاجتماعية عميقة. وأخيراً فإن حزب العدالة والتنمية هو في قبضة رجل كان له الدور الأول في في نجاحه ولكنه غرق في تسلط يواجه احتجاجات داخل فريقه.
إن تدخل تركيا في النزاع السوري إلى جانب المعارضة ودعمها لمجموعات مرتبطة بالجهاد العالمي خلق ردة فعل شاجبة لدى الذي يتخوفون من أن يفيض الصراع عن الحدود ويمتد إلى الداخل التركي. إن قمع المتظاهرين في حديقة تقسيم إن دل عى شيء فهو يشير إلى نفور من الإسلاميين لدى المواطنين وغطرسة رئيس الوزراء وأظهر كيف تم وضع اليد على مقاليد الدولة من قبل حزب العدالة والتنمية ولجوءه لستعمال للعنف.
إلا أن هذا الحزب ما زال يمتلك أوراقاً عدة، ويحوز بتأييد قسماً كبيراً من الرأي العام التركي. وهو يستفيد أيضاً من ضعف المعارضة السياسية اليسارية التي يهيمن عليها حزب الشعب الجمهوري، والذي يصعب عليه التخلي عن إعجابه بالجيش والمدويل الكمالي. وأخيراً فهو يمسك بالورقة الكردية، في حال نجاح المفاوضات رغم الصعوبات، فهذا سيضع حداً لصراع يعود إلى ثلاثين سنة ماضية ويساهم بدعم سلطة دولة القانون.
عندما زار الجنرال ديغول تركيا في تشرين الأول/أوكتوبر عام ١٩٦٨ حيى استمرارية تركيا «التي تتحكم بالمضائق (…) والتي تمتد على الهضبة الأناضولية وتلامس ثلاث قارات»، وهي كما أكد ديغول «تمتلك مقدرات جمة وإن كانت متعرضة لأسوأ الاحتمالات».

Alain Gresh