معمر عطوي
لا يقتصر الخطر الذي يواجهه لبنان اليوم على ما تم تفجيره من عبوات مادية وبشرية في أكثر من منطقة، بل لو رصدنا حركة ما أعلن عنه من عبوات اكتُشِفت قبل تفجيرها، أو تلك التي ضُبِطت ولم يُعلن عنها لأسباب أمنية أو سياسية، لعرفنا أن لبنان دخل بالفعل مرحلة العرقنة.
حين اجتاحت قوات الاحتلال الأميركي بلاد الرافدين، وسيطرت على الأرض والعملية السياسية معاً، بدأ الحديث عن لبننة العراق من خلال وضع دستور يقسّم البلاد على أساس طائفي (سني – شيعي – مسيحي) وعلى أساس عرقي (عرب – كرد – تركمان)، وتم بالفعل اعتماد عملية سياسية أوضحت التمايزات بين العراقيين في الدستور والمناصب السياسية العليا والوظائف رفيعة المستوى والقوى الأمنية. واقع بات يمهد لتقسيم البلاد جغرافيا على اساس اقاليم طائفية أيضاً.
ترافقت هذه العملية مع تفشي ظاهرة التفجيرات التي تستهدف جماعات شيعية تم الرد عليها أحياناً بعمليات مماثلة استهدفت جماعات سنية. كل ذلك بهدف تسعير المعارك الدينية والمذهبية، لتصبح دار السلام دار حرب وفوضى وجرائم ودمار، بفعل هذه السياسة التي أرساها الاحتلال وعززها زعماء الطوائف وعمّقوا من انخراطها في البيئة الاجتماعية.
لبنان اليوم وبعدما امتلك على مدى عقود مسوّغات قانونية وسياسية لظهور الفتنة بفعل التقسيمات الطائفية في كل تفاصيل حياته ودستوره وقوانينه، دخل مرحلة العرقنة من باب حرب المذاهب بعدما كانت الحرب في الأصل بين طوائف. أصبحت الحرب المقدّسة هي في تفجير الأبرياء بذريعة خياراتهم السياسية في الظاهر وفي الواقع بذريعة انتمائهم الديني او المذهبي.
دائماً يحضر تنظيم القاعدة في أعمال إرهابية مثل تفجيرات الضاحية وبئر حسن وطرابلس والعراق وباكستان وافغانستان واليمن وسوريا، وقد تعودنا على سماع تعليقات من قبيل أن الفاعل هو واحد من وضع متفجرات طرابلس والضاحية والسفارة الإيرانية. لكن في قرارة نفس كل من يقول ذلك أن هذا الواحد هو من الطرف أو المذهب الآخر. بما يعني أن من يقوم بزرع الفتنة هو واحد (الإجرام). لكن تحديد هويته لا تزال تخضع لمعايير مذهبية بحتة تقف خلفها عوامل سياسية من قبيل تجميل الاتهام، مثل القاء التهمة على سوريا أو حزب الله في تفجيرات طرابلس، بينما تحميلها للتكفيريين والسعودية في التفجيرات التي استهدفت أحياءً تقطنها غالبية شيعية.
الاتهام في كلا الحالتين يصبّ في تعميق الشرخ المذهبي وتحويل هذا الشرخ من خلافات عقائدية وسياسية إلى معارك دموية يباركها الله. لأن الحروب المقدسة عبر التاريخ كانت تنحت مشروعيتها من مقولة “الحرب على الكفار”. والحقيقة أن هذه الحرب التي لا مجال لاستبعاد أكثر من جهاز استخباراتي في حياكتها وتنفيذها، هي نتيجة حتمية لما توصلت اليه النخبة السياسية الاقتصادية الحاكمة في العالم اليوم، والتي تصنع الحروب وتنثر الدماء في سبيل التخلص من العدد الأكبر من الفقراء وتعزيز قبضة أصحاب مصانع الأسلحة والصناعات البتروكيميائية وامبراطوريات الإعلام الكبرى على الاقتصاد العالمي. ومن يسعى وراء المال يدخل من باب السياسة حتى لو كانت دموية.
إذن لبنان هو تفصيل صغير في مخطط دولي كبير وتاريخي لا ينتهي بعبوة هنا أو تفجير انتحاري هناك، بل قد ينتهي بوعي ضحايا هذه الحروب بأن لا يصبّوا زيت الفتن على نار الحرب المشتعلة من خلال ممارسات تعزز النزعة المذهبية والكراهية للآخر، كما يحصل في خطابات السياسيين ورجال الدين اليوم، والتي تتماهى معها ملايين المشاركات والتعليقات والأشرطة المصورة على صفحات التواصل الاجتماعي. خطابات ومشاركات وصلت الى ذروتها في تصوير شيطنة الآخر تمهيداً لتسويغ قتله. المفارقة المزعجة في ذلك، هي أن هؤلاء الانتحاريين الذين كان أسيادهم أمس يتذرعون بعدم القتال ضد عدو الأمة اسرائيل بأن الحدود مع فلسطين مقفلة أمامهم وبأن الجهاد محصور بجماعات وطوائف معينة، لم يعد لديهم ذريعة طالما أن الانتحاري نفسه الذي يقدر على الوصول الى بوابة سفارة ممكن أن يصل الى معبر حدودي أو شريط شائك طالما انه قرر التضحية بنفسه. لكن الواضح أن التجييش المذهبي قادر على دفع هؤلاء للقيام بما هو أهم من قتال الصهاينة في عرفهم. ولعل أفيون الشعوب هذا الذي يقنع الفرد منهم بالتحول الى قنبلة بشرية، ظاهرة تستحق الدراسة والبحث بشكل عميق وموضوعي في الدوائر الرسمية والأكاديمية قبل أن يصبح لبنان عراقاً ثانياً.