معمر عطوي
لا هو قطعة من السماء على الأرض، ولا هو بوابة العرب نحو الغرب، أو سويسرا الشرق، هو لبنان الذي طالما شكّل مساحة خصبة لممارسة الفوضى بجميع أشكالها، فبات مرتعاً لـ “الزعران”، بحسب المصطلح اللبناني الذي يشير الى سيئي السمعة.
فلطالما كان لبنان مساحة لممارسة الفوضى وتجاوز القانون حتى في الفترة الفاصلة ما بين انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) ومرحلة ما بعد مقتل رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط 2005. مرحلة دخل فيها لبنان في أزمة سياسية واقتصادية وحروب مذهبية غير مسبوقة.
في لبنان، أصبحت رؤية الشرطي ينظر الى مخالفي إشارات السير، شيئاً طبيعياً؛ يتجاوز بعض السائقين الإشارة الحمراء بسياراتهم الفارهة أو ذات الزجاج الغامق على مرآى من جلالة الشرطي، الذي لا يكلّف نفسه عناء حتى تسجيل رقم السيارة، وحتى لو كادت تتسبب بحوادث قاتلة. والأنكى من ذلك أنك حين تحترم الإشارة الحمراء وتقف بانتظار الضوء الأخضر فستسمع أبواق السيارات خلفك مصحوبة بشتائم من العيار الثقيل، وكأنك ارتكبت غلطة شنيعة.
والإشارة قد تعني بعض السيارات لكنها لا تعني المارة الذي يحتاجون الى دروس توعوية حول أهمية الوقوف عند المصباح الأحمر والسير حين يضيء الأخضر. كذلك الدراجات النارية التي يعتبر أصحابها أن الإشارات المرورية غير مخصصة لها، فيغامر راكبوها بالسير أمام السيارات العابرة باتجاه معاكس أو متقاطع.
في لبنان، قد تتعرض للسباب والشتائم لمجرد أنك أطلقت بوق سيارتك تحذيراً لدراجة هوائية مخالفة أو سيارة ارتأى قائدها السير بعكس القانون توفيراً لدقيقتين من الوقت قد يستغرقهما فيما لو سار في الاتجاه الطبيعي. وقد تتعرض للضرب وتكسير سيارتك من قبل “أزعر” لأنك نبّهته الى أنه يخالف قانون السير أو يلقي بالمهملات في الشارع من شباك سيارته أو كاد يسبب لك حادثاً قاتلاً بسبب قيادته المجنونة.
في لبنان، يكاد المرء يشعر بأن الشرطة متواطئة مع المواطن الفاسد، فلا تقف مع المظلوم ولا تدافع عنه حتى لو تعرض للضرب المُبرّح، وقد تساعد المعتدي إذا كان مدعوماً من جهة سياسية أو حزب طائفي.
في لبنان، يسخر منك رفاقك اذا لم “تلغم” عدّاد الكهرباء بهدف السرقة، وقد تجد من يستغرب أنك تدفع الرسوم والضرائب عن الخدمات الحيوية، ناصحاً إياك بتدبير واسطة أو دعم من قوى الأمر الواقع للتهرب من الدفع في بلد لا تزال فيه أحياء تخضع بكاملها لسلطات ميليشوية تفرض الخوات على التجار.
في لبنان، كل لبنان مخالفات بناء وتعدي على أملاك عامة وخاصة، وسرقة أموال للدولة، واستباحة مرافقها، والتعدي على الحريات الشخصية وحضور الازعاج بكل اشكاله من إطلاق أبواق السيارات مروراً بتدخين التراجيل والسجائر في أماكن مغلقة وصولاً الى إحياء المناسبات الدينية بطريقة منفّرة ومستفزة.
كل هذه الفوضى التي يعيشها اللبنانيون من القذارة التي تملأ الشوارع والنفوس الى التعديات ومخالفات القانون والازعاج والسرقات والفساد الاداري ما هي الا صورة مصغّرة عما يجري على مستوى السلطة. سلطة ينخرها الفساد والتبعية لقوى طائفية وأخرى “أمر واقعية”.
لبنان مهما حُكي عن موقعه السياحي ودوره في الربط بين العالم العربي والغرب، ومهما قيل عن ابنائه المثقفين المتعلمين وأصحاب الذوق الرفيع في اختيار الملابس والعطور وأطباق الطعام الشهي والهواتف الذكية. يبقى مرتعاً للزعران لدرجة أن كثيرين من ابنائه يبحثون عن مرقد عنزة حتى لو في أتعس بقاع الدنيا.