في روايته الجديدة “مراتب الموتى” الصادرة عن دار الفارابي في بيروت، ينقلنا الروائي فوزي ذبيان إلى العالم السفلي حيث تتحول الأجساد الميتة إلى مصادر للبوح بما هو مسكوت عنه في دنيا الأحياء.
ففي سردية لا يتجاوز عدد صفحاتها الـ 120 صفحة، يتفنن ذبيان في شرح مراتب الموتى من خلال مكان صغير مُعد لغسل الأجساد الراحلة على عالم الفناء، ورجل سبعيني إسمه ابراهيم ينظر الى جثامينه المُسجاة فوق المغسل بعينه الواحدة، لينقل لنا حكاية كل جثة على حدة، وما تكشفه تعرية الجسد بعد الموت من أمور كانت مستورة بفعل الأعراف والتقاليد وتعاليم الدين.
لا يظهر من المشهد سوى غرفة غسل الموتى وشخص إبراهيم وامتداد وحيد للشاب الغامض، لا يتمثل الا بجدّه الذي علّمه مهنة غسل الموتى اضافة الى عجوز شمطاء تخترق الصمت بين وقت وآخر لتبوح بما هو مخفي وما لا يجرؤ على قوله الناس.
شخصية ابراهيم المُلتبسة التي لا يظهر منها سوى علاقة وحيدة مركّبة مع جدّه الذي ربّاه والجثث التي تمر في حياته، فيما لا وجود لعائلة أو زوجة أو أبناء.
إذن أراد صاحب “إكميل” الصادرة عن دار الساقي عام 2005، أن يدخل من خلال هذه الشخصية الغامضة الى عالم متشابه في لحظة التسجي وانطلاق الروح من الجسد، مهما كانت الطبقية ومراتب الحياة المادية أو البيولوجية أو الثقافية تميز بينها على الأرض.
العالم السفلي يوحّد الناس ويجعلها جميعاً بعين ابراهيم الواحدة متساوية، خاضعة للنقد وللتصنيف ولتعليل أسباب لا يمكن التطرق اليها في العالم العلوي.
لذلك يخاطب ابراهيم أحد “زبائنه” الثمانيني المُسجى امامه وهو مالك إحدى المزارع على أطراف القرية، قائلاً “تباً لك لما هذه التكشيرة وهذان الحاجبان المقطبان؟ هل أنت خائف من الموت وقد باغتك على غفلة من حمارك؟ تباً لهذا الوجه البشع… حتى الموت يأنف من النظر إلى وجهك المقيت… كخّ وألف كخّ”.
ينتقل بنا الراوي من جثة رجل عجوز الى الجسد الذي عاش صاحبه على انه رجل لكن في الحقيقة كان امرأة أو “خنثى”. لم يكن/ تكن صاحبه قادراً على البوح بطبيعته في عالم الأحياء بسبب تعاطي الناس مع الجسد على أنه تابو محرّم لا يمكن الحديث عنه او كشف طبيعته وقد تمنعه/ها الذهنية الذكورية من البوح بغلبة الهرمونات الأنثوية في جسده/ها.
اضافة الى ذلك كانت لافتة قصة جثتي الطفلين إبنا المرأة العجوز التي جنّت بعدما اختفى زوجها وباتت تسير في الأرض هائمة على وجهها الى أن أصبحت متّهمة بإغراق طفليها في الماء على حد زعم أهل القرية. وكأن ذبيان أراد أن يقول لنا كيف يظلم المجتمع من يتعرض لمصيبة على طريقة “اذا وقعت البقرة كثُر سلاّخوها”. فبمجرد أن تحطمت نفسية المرأة بعد اختفاء زوجها أصبحت بنظرهم تلك العجوز الشمطاء المجنونة القاتلة والجالبة للنحس.
لقد وُفّق كاتب “الارهابي الأخير” (الصادرة عن دار الفارابي عام 2010)، في تقديم صورة المجتمع من غرفة غسل الموتى بكل سلبياته وطقوسه وأعرافه الخيالية التي تذهب بعيداً في مسألة الاعتقاد بالجن والفأل وحسن أو سوء الطالع وما الى ذلك. وتمكن ذبيان من سرديته غير المملة أن يوحد بين مراتب الموتى التي تتميز عن بعضها في الحياة، ويجعلها متساوية أمام عين ابراهيم الواحدة سواء كانت غنية أم فقيرة متعلمة أو أمية طفلة أو يافعة. ونبشت الأصل والفصل وباحت بما هو ممنوع ومحرّم حتى فيما يتعلق بأعضاء تناسلية قد تكون ملتبسة هي الأخرى في الحياة.