- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

حدث ذلك في الكراج

بقلم: سعدي عباس العبد

امتدت ايادي عديدة في الظلام .. ايادي لم ارها وهي تطبق عليَّ ..كنت اسمع هتافا غامضا , هتافا رفيعا . ممدودا يتصاعد في الظلام والريح , ريح الشتاء .. هتاف يتصاعد متزامنا مع نباح كلاب يتدفق من وراء جدران تنضح برائحة بول وقمامة .. كنت قد ترجلت عند اوّل طلائع الظلام من الحافلة الصاعدة إلى بغداد ..كان الكراج فارغا في اوّل الظلام , يشغله الصمت والبرد . عندما وجدتني  في متناول الايّدي . الايّدي الغامضة والمشّبوهة والمرعبة .. اوّل ما لاح في ذهني انّ اطلق صراخا . صراخا طويلا ينتشر وسط الفضاء البارد , وقبل انّ اتدفق بالصراخ والبكاء , احسست بايّدي ثقيلة تهبط على فمّي
ضاغطة بقوّة صادمة .. فيما كانت ذراع طويلة متماسكة تلّتف على رقبتي . فشعرت في الحال بقواي تخور وتضمحل ..فتداخلت المرئيات في ذهني . مرئيات اشباح الظلام ومرئيات الذاكرة التي شرعت في انّتاجها وضخّها المخيّلة المرعوبة ..حتى خلت نفسي اني في حلم او تحت تاثير غيبوبة , ولكن عندما تحسّست ملمس المسدس , ملّمس فوّهته وهي تمرّ باردة على شفّتي صحوت من الغيبوبة او الحلم المزعوم .. ثم صحوت تماما على اثر ركلة باغتّتني من الخلف اعقبتّها ركلة اشد وقعا ووجعا في بطني . فاحسست بالوجع ينمو متصاعدا من احشائي ويشتد مع تصاعد نباح الكلاب ورائحة البول .. ثم اقتادوني مكتّفا في
الظلام . وقبل انّ تلوح بوابة الكراج تصاعد نباح الكلاب .. مرّ وقت عصيب , كنت اسمع خلاله اصوات بنادق تأتي عبر الجدران المطلّة على جوانب الكراج وعبر سطوح البيوت والازقة ..
وعلى نور مصباح يدوي جعلوا يتحقّقون من هويتي وهمّ يترامقون , فلاحت ليّ عيونهم في الضوء الشحيح تنضح بريقا مخيفا .. كانوا يتداولون مصيري المعلّق على على رشقة من رصاص او ضغطة على الزناد . فراحت المسافة التي تفصلني عن المصير القادم بقوّة , تنحسر بمرور الوقت والبرد واللغط والرغبات السادية . تنحسر بمرور الذكريات التي وثبت دفعة واحدة إلى ذاكرتي وروحي واحلامي . ابتدأت تتدفق عائمة في مجرى من الرعب . ابتدأت من المهد إلى القبر او الموت المحمول على رشقة من الانتظار والخوف والرصاص  .. حتى بدت كلّ السنوات التي تسبق لحظتي هذه او موتي المرتقب , محض حلم ! . حلم عابر
لم اتعرّف على ملامحه في ظلام الكراجات والبنادق والقتل على الهوية . حلم بدا في الظلام كعلامات شبحية ماثلة في ليل الرصاص . . في تلك اللحظة الملّغومة .. شعرت بفيضان من التوق والحنين يشدني لرؤية اطفالي وامّي وابي العجوز المشرف في خطواته الاخيرة على حافة القبر .. شعرت بتوق لا يضاهى لتلك النهارات والشمس التي سوف لن تشرق ابدا .. كان الليل داكن السواد شاملا , لا اثر لنور القمر فيه , عندما اقتادوني خارج ظلام الكراج إلى ظلام العجلة رباعية الدفع , في تلك اللحظة الظلامية النابضة برعب النهايات ..جعلت تتوارد الى ذهني صور ومشاهد للإبادة والقتل .. مشاهد لاحت مهوّلة في
مخيّلتي… تراءى ليّ طيف ابنتي وهي تلاحقني عبر الظلام بعيّنيها المضيئتين , وهي تهتف بي . وهي تجري مقتفية اثري ولكنها سرعان ماتصطدم بالهولاء والظلام . فتتلاشى في مجرى من الغياب . غابت قبل انّ اطبع قبّلة على خدّها . رأيتها تلوّح ليّ في الظلام وهي تجري في اثر العجلة _ او هكذا كان يخيّل ليّ _ ولما استدرت برأسي لاح لي بريق نصل يتلامع في الظلام .. نصل جعل يدنو من رقبتّي احسست ببرودته الاذعة وهو يمرّ على عنقي وهو يتشظى ويتناسل إلى عشرات الحافات المتموجة في بريق مهوّل . حافات لامعة تلتحم في اللتماعات عيون اطفالي . فتشتد في داخلي حمى الموت وتبلغ اشدها حتى تغدو
حرائق تتصاعد في نمو الخوف . الخوف الذي اخاله يتدفق صادما عنيفا لاذعا من عيون اطفالي .. فجأة انطفأ هدير المحرّك , تلاشى في الظلام , فترجلوا , فبدت ملامحهم في الظلام غائمة لم استطع رؤيتها بوضوح منذ اختطافي في ظلام الكراج . فشعرت في تلك الرحلة المظلمة المخيفة كأني طويت حياة بكاملها في لحظة فاصلة شديدة الرعب تبتدأ من اوّل الطفولة وحتى هذه اللحظة الفاصلة بين حياتيّن !! قبل انّ تنزلق قدمي في خطوتها الاخيرة , احسست بطرف حذائي يغوص في ليونة لزجة ولما اضاء احدّهم المصباح اليدوي , هالني ما رأيت , فقد لاح لعيني مشهد الجثث في النور مريعا .. كنت ما ازال مسمّرا عند
الجثة التي ارتطمّت بها ..لما رفع اميّرهم رأسه يتطلع إليَّ وهو يتحسس مسدسه , ايقنت اني ساغدو عقب الرصاصة الاوّلى شيئا من الماضي ورقما من آلاف الجثث مجهولة الهوية لايحفل احد باستعادة تأريخه المؤرشف في سجلات الجوع والقحط والموثّق في سنوات الحرمان .. وقبل انّ اهتف بصرختي المؤجّلة , هتف بوجّهِ صوت المسدس ..