على عكس ما يعتقد البعض ويروج الإعلام الغربي عن اليابانيين فهم يحبون الإجازة ويقدّرون أوقات الفراغ للاستراحة من ساعات أو أيام العمل. ولذا فإن السياحة الداخلية هي أحد مكونات الاقتصاد الياباني الأساسية. وعند كل فرصة يخرج اليابانيون من منطقتهم للسياحة. وتتميز اليابان بتعدد المناخات فيها إذ أنها تمتد على طول ٣٠٠٠ كيلومتراً من الشمال البارد إلى الجنوب الاستوائي، ما يترك مجالاً لكافة الأذواق. ومما يسهّل هذه السياحة سهولة الانتقال بين المدن والمناطق بسبب كثافة وسائل النقل وخصوصاً القطارات. وفي الأرخبيل شركات سكك حديد متعددة تشبك المدن الكبرى والصغرى، وتتنافس خدمة لـ«حضرة الزبون» (وهي ترجمة حرفية لكيفية مناداة …الزبائن). وكذلك التنقل بين الجزر اليابانية (٦٨٥٢ جزيرة تقريباً) مؤمَّن بواسطة “الفيري” والسفن الصغيرة واليخوت الخاصة. ويشكل الباص والقطار وسيلة النقل المفضلة لدى اليابانيين الذي يفضلون النشاط الجماعي على النشاط الفردي، من دون أن يمنع البعض من استعمال السيارة الخاصة.
يجب خلع الحذاء قبل الولوج إلى النزل لهذا تشهد محطات سكك الحديد إزدحاماً وأجواء عيد في عطلة نهاية الاسبوع، ونظراً للمسافات
الكبيرة فإن معظم السياح يقضون ليلة أو ليلتين في فندق وفي أغلب الأحيان في فندق تقليدي يشار إليه بـ«ريووقان» (وترجمته الحرفية هي خان السفر). ويستقبل هذا النوع من الفنادق الزبائن فقط بعد الساعة الثانية بعد الظهر. ورغم تفاوت الأسعار لتصل في بعض الأحيان إلى عشرة أضعاف فإن البرنامج متشابه في معظم هذه المؤسسات التي يعود بعضها إلى خمسة قرون؛ النزول في الفندق يمكن أن يكون بحد ذاته هدف الرحلة، فهو طبعاً متواجد في منطقة وسط مناظر خلابّة وقريب من معلم سياحي. في حال كان الفندق بعيداً عن محطة القطار تنتظر الضيف سيارة “ميني باص”. وينتظره على المدخل عدة عاملين في الفندق للترحيب به. ولذكر تاريخ بناء الفندق وعدد الغرف وساعات تقديم الطعام وفتح أبواب الـ… حمام. (الحمام الياباني بحد ذاته من مقومات العطلة وأحد أهدافها). بالطبع يجب خلع الحذاء على مدخل الفندق.
الحمام الياباني ليس للاستحمام ذلك أن «غسل الجسد» يتم قبل ولوج الحمام أي المياه الساخنة الطبيعية. والطبيعة وجمالها لازمة ضرورية في الحمام الياباني في حال كانت غرفة الحمام في داخل الفندق مفتوحة على منظر طبيعي جميل. ولكن الياباني يفضّل الحمام الموجود في الطبيعة حيث التناقض بين حرارة المياه الساخنة وحرارة الجو البارد المحيط به. هذا ما عرضه علي أصدقائي يوم السبت: الذهاب إلى منطقة «إيسه» حيث أقدم معابد اليابان (موضوع ورقة الغد) والنزول في«ريووقان» بعد ذلك. الرحلة طالت ٣ ساعات وتغيير القطارات ثلاث مرات قبل الوصول إلى منطقة المعابد ومرة رابعة إلى حيث انتظرنا سائق مع سيارة. الاستقبال كان جيداً. السيدة المسؤولة عن غرفتنا شرحت لنا تاريخ الغرفة والمناظر التي تطل عليها وأسماء الزهور التي نراها من الشرفة، وقدمت لنا «يووقتا» (كيمونو للرجال) وأشارت لنا أن العشاء يقدم في الساعة الخامسة ونصف، وأن الحمام سيكون حاضراً في تمام الساعة الثامنة والنصف. كل زاوية في الفندق فيها عمل فني بسيط جداً: عبارة عن زهرة أو قطعة من غصن شجرة أو إناء للأزهار أو حتى في بعض الأحيان فنجان شاي قديم. العشاء كان باهراً ومتنوعاً والخدمة ممتازة. كنت أنا وصديقي في غرفة يابانية جلسنا متربعين على السجاد الياباني (تاتامي)، وأمامنا طاولة قليلة الإرتفاع تسمح لنا بتناول الطعام ونحن جالسين. الطعام متنوع بشكل يصعب وصفه والخدمة لا تُقارن بأي خدمة في
أي مطعم آخر، رغم أننا في فندق متوسط. في تمام الساعة الثامنة والنصف توجهنا إلى الحمام. وبعد أن اغتسلنا في غرفة ملاصقة لحمام مكشوف على الطبيعة «أنزلنا جسدنا في الحمام مفتوح على الطبيعة مياه ساخنة» (ترجمة حرفية للعبارة في اللغة اليابانية). الحمام كان مخصص لنا لمدة ٣٠ دقيقة، خرجنا من دون أن نلتقي مع من سيحل محلنا كما لم نلتق بمن سبقنا الجدول كان مضبوطاً مثل جدول القطارات. في بعض الأحيان يكون الحمام مشتركاً ومنفصلاً للسيدات وللرجال (علماً أنه قبل وصول الغرب إلى اليابان كانت الحمامات في القرى وفي أحياء المدن مشتركة للرجال والنساء والأطفال). عند الصباح نزلنا لتناول الفطور في القاعة الكبرى. الجلوس على الأرض والطاولات بعيدة عن بعضها البعض. الفطور لا يتضمن أياً من الوجبات السائدة في فنادق العالم: إنه فطور ياباني لا أثر للـ«كورن فلاكس» ولا لـ«الكرواسان» ولا لـ«الفول» إلخ… الأكل ياباني مئة في المئة وهو لذيذ جداً ترافقه خدمة ممتازة… وكالعادة تشعر أنك امبرطور.



