بين 15 أيار من عام النكبة و25 أيار من عام التحرير، كان الحاج عدنان قد فارق الحياة من دون أن يفارق منديل زوجته الشهيدة. كبر أولاده في المخيم تحت سقف من الصفيح، وجدران متعفنة لكنها لا تزال تحمل مفتاح منزله في حيفا إلى جانب صورة الإبن الشهيد الذي سقط في عملية خلال تسلله الى نهاريا، وزوجته التي سقطت بقذيفة عصابات “الهاغانا” في حيفا في عام النكبة، ومجسم خريطة فلسطين التي لا تفارق جدران المخيم.
حين انسحبت جحافل الغزاة من جنوب لبنان عام 2000، كان أبو عدنان التسعيني يتوكأ على عصاه في مخيم الرشيدية في صور ويراقب انهزام “الأسطورة” من خلال شاشة صغيرة كأنها الحلم. في تلك اللحظة التي كانت وجنتاه مخضبتين بدموع الفرح، استعرض شريط المأساة؛ عادت صور الشاحنات الى مخيلته، كان الأمر مختلفاً، فقد كانت الشاحنات في يوم 25 ايار 2000 تسير في الاتجاه المعاكس وتحمل جنوداً يجرّون خلفهم أذيال الخيبة والفرح معاً لأنهم ينجون من جحيم أبطال المقاومة في لبنان، بينما كانت الشاحنات في العام 1948 تنقل أجساد الفقراء وبضعة ثياب تمكنوا من حملها قبل انسلاخهم عن وطنهم تحت وابل قنابل العصابات الصهيونية.
أمام هذه المفارقة نهض أبو عدنان من مكانه، منادياً ابنه: “يالله يا خالد دوّر السيارة تنطلع عالحدود، بدي اشوف فلسطين”. ونادى على جاره وصديقه الوفي ابو الحسن الذي احتضنهم في عام النكبة في بلدته صور وأمّن لهم كل ما يحتاجونه.
لحق خالد بسيارته المترهلة مواكب الراجعين الى بيوتهم المحررة حتى وصل إلى بوابة فاطمة، حيث توقفت المسيرة وأُقفلت الحدود.
هنا وقف أبو عدنان مع الكثيرين بينما شريط المأساة ينخر رأسه وقلبه، ولسان حاله يتساءل: “لماذا توقفوا هنا!؟ لماذا لم يكملوا السير حتى البحر؟!”. اتكأ على صخرة قريبة وهو يقول لإبنه الذي كبر لديه الأمل بتحرير فلسطين بعدما شاهد “المعجزة” في جنوب لبنان: “يا خالد بشم ريحة الليمون من هان بدار سيدي.. بشم عبق حيفا ويافا وعكا وصفد من هان”. وفجأة سكت ولم يعد يتكلم .
عندما اقترب منه إبنه ليحدّثه وجده وقد أصبح جثة هامدة وعينياه مسمرتان نحو مرتفعات الجليل وفي يده منديل يحتضن حبات زيتون قديمة من عمر النكبة.