بقطع النظر عن جدوى الثورات في أرض يباب؛ كالأرض العربية الجدباء التي أدمنت الرضوخ لجزمة الجنرال وشيخ القبيلة وزعيم الطائفة، أو عن عوامل مصادرة هذه الثورات من قبل الأجهزة الاستخباراتية الخارجية. وبعيداً عن ذهنية المؤامرة والمخطط المدروس مُسبقاً لتغيير خريطة العالم العربي، فإن ربيع الثورات العربية بات ربيع الجنرالات بامتياز.
باستثناء تونس، التي لا يزال فيها الحد الأدنى من روح الثورة، ومن تفاهم أبنائها سياسياً على إدارة خلافاتهم بطريقة أكثر حضارية من أي بقعة أخرى من بقاع العالم العربي، باتت “أم الدنيا” مصر، مسخرة الثورات العربية، حيث تحول فيها جزء كبير من الشعب، من ناشط في سبيل محاربة الدكتاتورية والفساد والجوع، إلى مصفّق لديكتاتور عسكري، استغل ضعف آداء وفساد “الإخوان المسلمين” وغياب مرجعية وطنية تدير شؤون ثورة 25 يناير، ليتسلم زمام أمور أكثر من 80 مليون نسمة، منقسمين بين ديكتاتوريتين؛ واحدة دينية بقيادة “جماعة الإخوان”، وأخرى عسكرية بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي أعاد معادلة الفوز بما يتجاوز الـ90% من الأصوات، الى انتخابات الرئاسة العربية، مطيحاً بكل قيم ثورة “ميدان التحرير” و”الغلابى” الذين صنعوها وباتوا من بين المفقودين بعد مصادرتها من الداخل والخارج.
في اليمن، أيضاً ديكتاتور ونائب لديكتاتور سابق. وزير الدفاع الأسبق عبد ربه منصور هادي، ضابط خرج من صفوف المؤسسة العسكرية الى السياسة، وبات حاكم تسوية وفق مبادرة سعودية هدفها الا يموت ذئب الخليج علي عبدالله صالح، ولا تفنى أغنامه اي مصالح السعودية في اليمن.
جنرال يحكم اليمن ما بعد الثورة، وفق صفقة لا علاقة لها بثورة اليمن السعيد ولا تمت بصلة إلى “ساحة التغيير”.
في لييبا، خرج ضابط سابق من عملاء الاستخبارات الأميركية المعروفين بعلاقتهم بشكل سافر، ليدير شؤون الجماهيرية السابقة. وانبرى اللواء خليفة خفتر، لقتال الاسلاميين المتشددين، معلناً أن مشكلات ليبيا هي بسببهم فقط، وأن كل ما تعيشه الهضبة الأفريقية من مشكلات قومية وقبائلية واقتصادية وأزمة ميليشيات منتشرة، ما هو إلاّ بسبب “الإخوان المسلمين”. وبات عميل واشنطن بنظر بعض العرب “أطهر” من عملاء الدوحة. علماً ان كلا الديكتاتوريتين الإسلامية والعسكرية وجهان لعملة واحدة هي الاستبداد والقفز فوق أهداف الثورة.
وفي سوريا، طبيب عيون، أراده قدر المصالح العليا لدولة “البعث” والنظام الوراثي وربما بعض القوى الخارجية، أن يكون عسكرياً رغم ميوله الطبية المدنية، فأصبح، بالقوة، بعد وفاة والده الدكتاتور حافظ الأسد في 10 حزيران 2000 جنرالاً برتبة فريق، ليقود سوريا نحو ما آلت اليه اليوم من فوضى وحروب طائفية، فبات بقاؤه في الحكم بعد حراك اذار 2011، ضرورة بالنسبة ليس فقط لأصدقائه بل حتى لخصومه؛ فحماية الحدود مع الجولان المحتل لا يضمنها الا جنرال قوي، فيما لا يمكن الوثوق بجماعات مسلحة تشتري وتبيع وتتصرف وفق أهواء مصالحها وقادتها أو مشغليها ومموليها. وها هو يعود اليوم رئيساً لولاية ثالثة رغم 140 الف قتيل ودمار كبريات المدن وتشريد الملايين بدعم ديكتاتوريات إسلامية في ايران وعسكرية استخباراتية في روسيا والصين.
نجح القيّمون على إدارة لعبة الشطرنج في العالم في تحويل الربيع الى خريف، والثورات الشعبية السلمية المدنية إلى بزات عسكرية مموهة وأحذية لا ترفس إلاّ الرؤوس. وعنوان المرحلة هو “مكافحة الارهاب”. كيف استغل الإرهابيون هذه الثورات ليدخلوا الى الهيكل فيعطون ذريعة على طبق من فضة لحاكم ديكتاتور بأن يطرح على الشعب خيارين: أنا أو الطوفان!! ومن أدخل الدب الى الكرم غير هؤلاء الذين استفادوا من شعار محاربة الارهاب؟.
الديكتاتور ببزته العسكرية كسب المعركة وأصبح شكله، بنظر الكثيرين ممن استسلموا للعبة الخداع، زاهياً أكثر من الثورة وجمالها وسطوتها وقيمها الإنسانية.
ديكتاتور بأوسمة كثيرة على صدره، حصل عليها من غير معارك ولا بطولات، وها هو اليوم يتذر ع بمحاربة الإرهاب ليقضي على الأحرار من شعبه، ولم يعد بحاجة الى أوسمة على بطولاته اللاحقة طالما أخذ صك براءة من معلميه وبات ضرورة لا يمكن التخلي عنها.