- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

لعنة العذريّة تلاحق المرأة

نصيرة بلامين

سكينة، قد يخال المرء أنّ اسمها يطبع سكون الدنيا كلها، سكون بلا حدود، سكينة أضحت وظلّت ساكنة. يا لسخرية القدر؟ لا بل يا لسخرية من حكموا عليها بالموت، لكنّها بقيت ساكنة، فما عساها أن تفعل؟ تذكرت مثلاً جزائرياً ساخراً، فالسّخرية كانت ولا تزال الدّواء النّاجع في الثّقافة الجزائرية عندما يريد المواطن أن يتناسى همومه وحتّى في أحلك الأحوال: “واش يدير الميّت في يدّ الغسّال؟، السّؤال يبقى مفتوحاً.

سكينة صامتة، ربما في محاكاة لما قالته نوال السعداوي في أحد كتابتها: “شهرزاد قاومت الموت بالكلام وخلق حكايات جديدة كلّ يوم وكلمات جديدة، لكنّ بعض النّساء يلجأن إلى الصّمت كنوع من المقاومة. الصّمت نوع من الحجاب يفصل المرأة عن عالمها الخارجي“.

الصّمت مقاومة، والصمت أشد بل أقوى من الكلام وأحسنه تعبيراً. للصّمت دويّ مرعب، الصمت لغة القهر تصطحبه ابتسامة. صورة سكينة تناولتها غالبية الصحف الفرنسية. ماذا تخبرنا الصحف؟ العدالة الإيرانية خفّضت إدانة السّيدة سكينة أشتياني من الرّجم إلى الشّنق، تقدّم ملحوظ! الشعوب انتفضت لتنهض بمجتمعاتها، لكنّ حكامها أوجدوا طريقة جديدة لردع المقاومة الشّعبية، وزرع الخوف من جديد. الحلّ الأنجع هوضرب المرأة طبعاًالتجسّس على عرضهاشريفة أم غير شريفة؟لنقس شرفها بمقياس العذريةسنكسر شوكتها ونرعب الشعوب العربية والنساء جميعهنعذراء أم لا؟، هذا هو السّؤال الذّي يقلقهم، ينفخون فيه حتّى صار كالأسهم النّارية تطلق جعيرها لنخشى صواعقها،يتحجّجون بالعادات والتّقاليد التّي يرضعونها من أثداء المجتمعات المتخلّفة، كما تقول الكاتبة ليلى العثمان، فلتذهبوا إلى الجحيم حينهاالعهر الحقيقي هو عندما تقهرون الشّعوب وتبيعونهم لأوّل نخّاس، وحتّى وإن كانت سكينةعاهرةأوساحرة، كما يحلوا لكم أن تصفوها، فأنتمقوّادونمن درجة أولى أيّها الشّرفاء، بلأشرف القوّادين“.العيب ليس في العهر، العيب في القوادة،  وهنا تذكرت ألبيرت كاموه عندما قال ساخراً: “عندما نتدبر كثيراً في المخلوق الذي هو الإنسان، أكان بدافع مهني أم لا، ينتابنا الحنين إلى الإنسان الحجري، على الأقل لا يحمل نوايا ناقصة“. هل الحلّ هو البحث عن الإنسان الحجري؟ أين تكمن الإشكالية؟ على ما يبدو أنّ المعضلة هو كونرصيف الورود لا يجيب“. أنا لا أتحدّث عن كتاب مالك حدّاد، بل عن الحياة، عن رصيف الإنسان، عن رصيف تغيير نظرة الحياة هل نمنحها وردةً أم شوكًا؟  سكينة بين نيران الموت أكان ذلك رجماً أم شنقاً. فالموت واحد أيّها الأغبياء.

أترك صورة سكينة الآن بين عيني، وأعود إليها لاحقاً، سأكتب بخطّ رفيع، أكتب بخطّ امرأة، لأنّ المرأة عندما تكتبتؤلم الرّجل، إنّها قسوة له، فعل الكتابة صعب للجميع، كما تقول مارغريت دوراس، ليست نيّتي في جعل الرّجل يتألم، لا أريده أن يتألّم بل أنيعي، مجردوعيّلا غير. أظنّ أنّني لم أطلب الكثير، لكنّ أليس الرّجل والمرأة من سلالة البشر؟ في هذه اللّحظة بالذّات، بدأت أشك عندما أرى بعض التّصرفات المعتوهة بل المتوحشة تجاه النّساء.

أسئلة كثيرة غزت فكري بجيوشها الضّخمة التّي اصطفت واحدة بعد الأخرى لأطرحها: هل عندما تكون قضية ما تمسّ المرأة، تصبح قضيّتها غير إنسانية؟ قضية تافهة؟ مجردّهواجسوبرانويا؟ هل يجب جعل هذه القضية عبرةً لمن يعتبر لندخل الرّعب والهلع في قلوب النّساء؟ 

وبالتّالي أوّل حجة لرمسها هو وصفها بالهيستيرية، والقنبلة الجنسية، وفينوس السّاحرة، وسارقة الرّجال، والعاهرة“. ألا نحتاج جميعنا إلى قراءة ولو بعض صفحات حولالهيستيرياالتّي كتب عنها فرويد وأثبت أنّ الهيستيريا ليس مرضاً نسائياً، بل رجالياً أيضاً. الأمر لا يتعلّق بخلق صراع بين المرأة والرّجل، بل إيجاد أرضية تفاهم، أرضية متحضرة، ومحاولة فهم الآخر دون المساس بكرامة الآخر. العجيب في الأمر، أنّ هذاالدّاء، أقصد، التّفرقة بين الأنثى والذّكر أكثر ما يصيب هو مجتمعاتنا العربية والإسلامية. أنا لا أقول إنّ هذا الدّاء لا يصاب به الغرب، لكنّ داء التّفرقة بين الجنسين يبدو للأسف متأصلاً في مجتمعاتنا العربية، والأكثر أسفاً هو أنّ النبي محمد أول ما أوصى به الناس في حجة الوداع هوأوصيكم بالنّساء خيراً،  ورددها مرات عديدة. يبدو أنّ الوصية أخذت بعكس مفهومها. قد يقول قارئ لي إنّني أصبت بالهيستيريا أو بي داء كره الرّجالكلاّ.

سأحوّل وجهة فكري قليلاَ وأنقله إلى مصر، بعد ثورة 25 يناير وسقوط حسني مبارك، حاول الجيش المصري استخدام الثّورة لصالحه، ولإرعاب الشّعب، أوّل حلّ إرهابي أوجده هواستفزاز المرأة“. كلّ امرأة متواجدة في ساحة التّحرير تقاد إلى المخفر أو المعسكر للتّحقيق من عذريتها. وأوّل ضحايا هذا التّوحش والإرهاب التّسلّطي الحيواني كانت الشّابة سميرة إبراهيم. “التحقق من العذرية، أواختبار العذرية، أخذت أتمعن مليّا وكأنّي تحت جهاز تلسكوبي أكتشف بدوري معاني فيروسالتّحقق من العذرية“. أترك الجهاز التلسكوبي يتمعّن جيّداً فيالعذرية، وأعود إليه لأقرأ عليكم نتائج الاختبار

وأنا أقرأ الجديد في قضية سكينة أشتياني، تذكرت واقعة حدثت معي العام الماضي عندما التقيت بفتاة جزائرية، مثلي، كنت جدّ فرحة لأنّي اعتقدت أنّها ستحدثني عن أخبار البلد أو عن آخر كتاب قرأته أو حتّى أن نلتقي في مقهى ونتجاذب أطراف الحديث أوأولكن سؤالها الأول كان: “هل أنت عذراءوهل تصومين رمضانوهل تأكلين لحم الخنزير“. للحظات خلت نفسي في مركز شرطة الأخلاق. نظرت إليها ملياً وابتسمت ولم أجبها، لأنّ أسئلتها لا تستحقّ رداً. وأنا أسمع رنات أسئلتها الخالية من كلّ معنى تذكرت محاضرة حضرتها للّسانية والسيميائية الفرنسية أن ماري أودوبين، وهي تحدثنا عن جلسة فكرية حول عملية تأنيث بعض الأسماء الفرنسية وكان من بين هذه الأسماء كلمةشيف” (رئيس) Chef ، وعرضت اقتراحين للكلمة سواء بتأنيث ضمير النكرة ليكون: Un chef, une chef أو إدخال مزيد على كلمةشيففي أواخر الكلمة لتصبحشيفاس“Une chefesse .

وحدثتنا عن أحد لقاءاتها في إحدى الإذاعات الفرنسية حول هذا الموضوع، وقالت لنا بكلّ طرافة وخفة ظل، وهي تجيب على الصحافي المذيع الذّي أراد أن يعرف قرار اللّجنة في موضوعأون شيفأوأون شيفاسلترد عليه: “لقد قررنا اختيار كلمةأون شيفلخفة النّطق، فما كان من الصحافي إلاّ أن عقب مازحاًيا للخسارة، لقد أفقدتموها جانبها الجسدي الأكثر إثارة“.

ابتسمت وأنا أتذكر هذه المحاضرة وأسمع تساؤلات عن العذرية التّي طرحتها عليّ تلك الفتاة، وقلت لنفسييا للفرق بين السيدة أودوبين وهذه الفتاة“. حقيقة أين تكمن المشكلة؟ المشكلة العويصة أنّ النّساء والجمعيات النّسوية في العالم يخرجن لينددن هذا العنف الجنسوي اليومي والمتواجد حتّى في العمل، فنساء حركةفيمانلم يترددن في التّظاهر نصف عاريات بلباس مغرية لإيصال رسالة قويّة للمجتمع الدّولي محتواها: “المرأة ليست آلة جنسيةالمرأة لا تتزيّن ولا تبدو في أجمل حليها من أجل إغراء الرّجل بل لنفسهافكفاكم النّظر إلى مظهرها وإهمال عقلها“. وأنا أقول هل مصداقية المرأة في العمل أو في المجتمع بصفة عامة تجوز عندما تمحو أنوثيتها وتلبس بنطلونا؟ هل مصداقية المرأة تكمن في القضاء علىالكعوب العاليةوأحمر الشّفاه؟ المشكل هو غياب حوار تضامني بين النّساء، وخاصة عند النّساء العربيات، وبدل أن ترى في عين امرأة أخرى مثيلتها ترى فيها العدوة والسّاحرة والعاهرة والخصمة وسارقة الرّجال والمحظية المرتقبة. أن نجعل المرأة عنكبوتاً تلتهم الرّجال هو تفكير معتوه، بل تفكير خطير، وإنّما المرأة هي التّي تجعل من بنت جنسها عنكبوتاً، إذا شمّت فيها قطرة عطر أو رأت عليها خط كحل أو وقع عينها على كعب عال أو طلة ثديّ ينمّ فيها الغيرة. سيّدتي لم نأت لنسرق مكانتك أو حبيبك أو زوجك أو غيره.

أقولها علناً، داء النساء العربيات هواتباع سياسة المحظيات“. أنا لا أخترع شيئاً، فهاكم امرأة عربية في مقال قرأته تقترحعودة الجاريات“. ولهذا السّبب كانت ولا تزال المرأةهبة للمجرم، كما قال ألبيرت كاموه، واستعير في هذا المقام عبارات غادة السمان وأقول: “إن واصلنا على هذه الوتيرة في بلداننا العربية والإسلامية سننقرض إن شاء الله“.

ولذا كانت المرأة دائماً ولا تزال في جميع الثقافات ولا أقول فقط العربية، موضعشبهة، وهي دائماًقيد تنفيذ الحكم عليها، وهي معدومة ومعدمة في كلّ الأحوال. هذا هوالوأد الحقيقي، فالجاهلية قابعة في أعماقنا ولم نتخل عنها، أليس من واجبنا التّجرؤ علىستربتيز فكري، والنّظر إلى قضية المرأة كـقضية وعيّ عام، لا قضية صدقة مهذّبة، لطيفة كالقفازات البيض، كما وصفتها غادة السمان.

أعود إلى مخبر العذرية لأتسلم التّحاليل. التحاليل الاجتماعية تقول لي أنّ نزاهة المرأة وشرفها يقاس بـغشاء بكارتها، يعني إذا كنتعذراءفأنتنزيهة وشريفة، إن لم تكوني عذراء، فأنتمجرمة، عاهرة وساحرة“. لكن كيف تسمحون وتتسامحون مع الرّجل خياناته وممارساته الجنسية، لكنّ إذا تعلّق الأمر بالمرأة تصفونها بالشّيطان والسّاحرة؟ كيف يكون مقياس شرف المرأة في جسدها فقط أوبغشاء تولد به أو لا تولد، كما نددت بذلك الدكتورة نوال السعداوي؟ إنّ الذّي يحكم شرف المرأة بعذريتها هو مجرم، هذا هو العهر في حدّ ذاته، هذا هو العهر الحقيقياقتلونا على مشانقكم، سيّدي، اقتلونا، ارشقونا بحجارتكم أيّها المجتمعارشقونا.

الجريمة الحقيقية هي اللامبالاة بحقّ سكينة أشتياني والتّفرج عليهابنظرة الشّامت، بدل اتخاذ موقف عادل. لتعدموها، اعدمونا، لكن سنبتسم لكم وأنتم تعدموننا، لأنّ ما تصفونه بجريمة ليست جريمة، إنّما المجرم الحقيقي والماكر الحقيقي يتستّر بقيم المجتمع، هذا هو العهر الحقيقي

أصل البلاء من حواء!”، هذا افتراء وكذب خطير تتدثر به المجتمعات لتوسيع هوة الفرق بين الجنسين، البلاء ليس من حواء بل عين البلاء هو واضع هذه المقولةمظهر الإنسان ليس معياراً للشّرف، فيمكن أن تجد امرأة تصلي وتتبع التّعاليم الإسلامية بحذافيرها، ويعتبرها الغير قدوة حسنة وقلبها أسود، ويمكن أن تجد امرأة، لا تطبق أيّ تعليم، وحتّى وإن حكم عليها الغير بـالعاهرة، هي شريفة القلب، هذا كله مظاهر ونفاق المجتمعاتإنّها الكوميديا الإنسانية على مسرح الحياة.

نعم، اعدموا سكينة أشتياني، بل ارجموها، ارجمونا بحجارتكم لكنمن كان بدون خطيئة فليرجمها، بل كما همست غادة السمانمن كان بدون خطيئة فنحن الذّين نرجمه لأنّه ليس إنساناً“.