روبير بشعلاني
اهالي الفكر ” الثوري” العربي الذين طبلوا آذاننا طيلة السنوات الاخيرة بسير الربيع العربي والجماهير العفوية التي لا تعرف ماذا تريد والاكثار من مصطلح الشعب، عادوا اليوم الى اكتشاف الحرب الأهلية التي، برأيهم، صادرت الثورة وابتلعت مصطلح ” الشعب” بطريقها أيضا.
يقول أحد ابرز هؤلاء، اليوم بالذات، وهو تقريبا صاحب كل اعلام العالم العربي، اذا صدقت الوالدة، إن “الإرث الاستعماري” والأصول الريفية للناس وولاءاتها ” الأهلية”، كما ” لوجود الدولة الصهيونية”، هي عوامل لعبت” دوراً في إفشال المشروع التحديثي الديمقراطي العربي”. من ذلك يستنتج كتابنا وكبار مفكرينا أن “من شأن ذلك التحول أن يحوّل الثورات إلى ما يشبه الحروب الأهلية”!.
أولا وبمعزل عن صدقية هذا الكلام ودقته وجب القول لصاحب هذه القولة “خربتلنا بيتنا يا استاذ”. كان الاولى بك ان تقول هذا الكلام قبل الثورة وخراب البصرة لا بعدها. ألم تكن تعلم أن الدولة عندنا لم تنشأ بعد وأن المجتمع عندنا مؤلف من ” أهالي ” ولاؤهم لقراباتهم أولا؟ ألم تكن تعلم أن الشعب عندنا مصطلح وهمي حتى اشعار آخر طالما المواطن والدولة في عالم الغياب؟
على أي حال، فإن انتقال الخطاب من ” الحض على الثورة ” الى ” كلهم طوائف” ولا ينتجون الا “حرب اهلية ” هو ايضا انتقال كيفي لا يضع اليد على الجرح العربي اليوم. أو لنقل, اذا ساءت نوايانا، أنه يسعى بهذه المقولة الى إخفاء حقيقة الصراعات الجارية اليوم على أرضنا الطاهرة.
فما جرى بالاساس لم يكن صراعا داخليا ونقطة على السطر. لا ثورة ولا اقتتال طائفي. كان وما يزال صراعا على المنطقة وعلى مواردها. والا كيف نفسر هذا الاصرار الخارجي المحموم على الانخراط الكلي بالصراع المحلي ؟ هل صارت اميركا تحب الديمقراطية الى هذا الحد؟ ليس على علمنا. وعلى فرض أنه اقتتال اهلي بين السنّة والشيعة ، هل اصبحت أميركا من اهل السنّة بدون علمنا ؟ ولماذا هذا الاستثمار بالقرابات السنيّة ومحاولات توحيد “شيعها ” المتناقضة المصالح والأهواء ؟ لماذا تسعى اليو أس أي الى رأب الصدع بين السعودية وتركيا لكسب مصر؟ أو ليس الصراع السنيّ-السني بين اطرافه الاقليميين اقوى وأشد مضاضة من الصراع ” السني-الشيعي” ؟ فلماذا التركيز على الصراع الشيعي-السني وحده إذن ؟ جرت العادة أن يتناول الكتاب الحداثيون العرب وضعهم الفعلي بحياء وخفر متغافلين عن ذكر الاطراف المتقاتلة بأسمائها الحقيقية مخافة أن يقعوا في “فخ” الطائفية. فالطائفية برأيهم فخٌ وجب عدم الوقوع به.
الارتب سياسيا أن نسمي الناس عندنا طبقات ولو لم تجدهم في الصراعات الفعلية. الارتب والأكثر أناقة أن تستعمل مصطلحات حديثة ولو كوّنت جدارا اسمنتيا بينك وبين الواقع الفعلي. على الاقل استعمل مصطلح الشعب اذا وجدت أن ” الطبقات “غير واضحة. أما أن يضطر اليو أس أي، عندنا،الى تبني الاسلام، السنيّ بخاصة، تارة المعتدل وتارة الخلافي، بحسب الأيام، فمسألة لم تستدع المفكر العربي ولم توقفه عن حداثيته.
تعلمت من تقلا، تقلا جدتي، وكانت منظّرة العائلة في صراعات قريتنا البقاعية المؤلفة، برغم أنفكم من ثلاثة طوائف، لا ثلاث طبقات، تعلمت درسا سياسياً كبيراً عن الصراع. كانت حينما تسمع “تشاقيع” الطوائف، بعضها للبعض الآخر، تقول لقزحيا، جدي: إنزل يا قزحيا و” شوف عا شو مختلفين ؟” . ما هو موضوع الصراع بلغة اهل العلم. كانت جدتي تعلم أن ما يحرك صراعات البشر بين بعضهم هو مشاكل الارض لا الخلاف على السماء ولا على طريقة الوصول اليها. لذلك كانت تحرص، خدمة لتموضعها الصحيح، على معرفة اسباب الخلاف الحقيقية بين طوائف البلدة. بالمحصلة ، لا يمكن لأميركا أن تكون سنيّة يا جماعة الخير. كل الأنبياء عندها لا يساوون برميل نفط واحد. أفلا تعلمون ما هو موضوع الصراع عندنا اليوم ؟ ” على شو مختلفين “؟