نصيرة بلامين
عملت فرنسا بعد احتلالها للجزائر عام 1830 على تغيير البُنى الاجتماعية والثقافية للمجتمع الجزائري وذلك بالقضاء عليهما تدريجيا واستبدالهما بالثقافة الفرنسية. وكان غرضها من هذا المخطط الاستعماري هو إبعاد النخبة الجزائرية والتضييق على علمائها وتشريدهم عبر أنحاء المعمورة وترك معظم الجزائريين يقبعون في ظلمات الجهل والفقر.
إلا أن المقاومة الثقافية للحفاظ على المقومات الوطنية (الإسلام واللغة العربية والعادات والتقاليد) لم تتوقف، إذ ظهر شيوخ وأعيان دافعوا عن القضاء الشرعي الإسلامي وعارضوا التجنس الفرنسي وتأميم أراضيهم والتجنيد العسكري. ومن بينهم كان العلامة عبد الحميد بن باديس حامل مشعل المشروع التعليمي الذي برز في مطلع القرن العشرين ورفض الإدماج والفرنسة.
ومن خلال كتاب “المواقف السياسية للعلامة عبد الحميد بن باديس” الذي أصدرته دار الهدى للنشر الجزائرية، وهو عمل لثلاثة باحثين: الطاهر بونابي وأحمد صاري وعبد العزيز فيلالي، يمكننا فهم السياق التاريخي التي ظهرت فيه هذه المقاومة الثقافية لصد محاولة فرنسا في تفكيك القبيلة والتدخل في العبادة الإسلامية وحتى تشكيل نخبة تتطابق مع تطلعات المستعمر.
كما تناول الكتاب البيئة التاريخية والثقافية التي عايشها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكذا الفكر السياسي للعلامة من خلال أقواله وأعماله وأفكاره وكتاباته الصُحفية التي كانت تُنشر في جريدة “المنتقد” التي أنشأها والتي كانت عونا له في التعريف بالحركة الإصلاحية والدفاع عن الشخصية الجزائرية.
وولد الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1889 في مدينة قسنطينة وهو ينحدر من أسرة برجوازية عريقة وأتاح له مركزه الاجتماعي تعلم اللغة العربية والعلوم الدينية والتخصص فيها كما انتقل إلى جامع الزيتونة وحصل على إجازات عديدة.
وشهدت مدينة قسنطينة قبل احتلالها سنة 1837 من قبل الفرنسيين نشاطا علميا وثقافيا واسعا تمثل في العمل التربوي والطقوسي عبر مختلف الزوايا السائدة آنذاك، وهذا امتداد لحركة علمية عرفتها المدينة منذ عهد صالح باي بين 1771 و1792. لكن بعد سقوطها في يد الاحتلال، قام الضباط الفرنسيون على الاستحواذ على عدد من المؤسسات الدينية والتعليمية وأوقافها فمنها ما تعرض للتدمير أو تم تحويلها إلى كنائس أو مستشفيات مدنية أو مراكز ومقرات عسكرية وأنشؤوا بدلها مدارس ابتدائية فرنسية لتنفيذ مخطط فرنسة المجتمع الجزائري.
ومع صدور “قانون الأهالي” « le code d’indigénat » سنة 1871، تم القضاء على المؤسسات التقليدية التي كانت تُسيّر شؤون المواطنين الجزائريين وفقًا للأعراف والتقاليد والقوانين الإسلامية، كما سُلبت الأراضي من الجزائريين ومُنحت للمعمرين من الأوروبيين وفُرضت عليهم ضرائب مُجحفة مع الحد من حريتهم وتنقلهم إلا إذا قدموا تراخيص من قبل الإدارة الفرنسية. ومع ضرب ملكية الأرض الجزائرية ومحو المقومات الدينية واللغوية للمجتمع الجزائري تفكك النسيج الاجتماعي واضمحل على الصعيد الاقتصادي.
وفي خضم هذا المناخ السياسي والثقافي والاقتصادي الذي عرفته الجزائر ومدينة قسنطينة منذ اجتياح فرنسا لها، كان لعبد الحميد بن باديس مواقف واضحة في مواجهة الإدارة السياسية الفرنسية التي فرضت إدارتها وقوانينها وحلت المؤسسات الجزائرية وعملت على طمس الشخصية الجزائرية.
وبدأ العلامة نشاطه في العمل التربوي قبل أن ينتقل إلى إصلاح العقيدة وقام من خلال تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة 1931 وكذا عن طريق كتاباته الصحفية بنشر الثقافة السياسية والوعي النضالي لتحقيق السيادة والاستقلال، واعتبر عبد الحميد بن باديس العلم أساس الحياة، وكان يقول إنّ “العلم قبل العمل ومن دخل العمل بغير علم، لا يأمل على نفسه الظلال”، وأضاف في أحد مقالاته إنّ: “تحرير العقول (هو) قبل تحرير الأبدان”.
وتحتفل الجزائر سنويا بيوم العلم كل 16 من شهر أفريل، وهي ذكرى تصادف وفاة العلامة ابن باديس.