نقطة على السطر
بسّام الطيارة
أثبتت القوى الرأسمالية الحاكمة لأوروبا، بغض النظر عن الانتماءات السياسية للحكومات والحكام، أنها أقوى من الديموقراطية التي تتبرج بها دول الاتحاد الأوروبي.
إن مراقبة ما حدث في بروكسل منذ التصويت على اقتراح التسوية الذي عرضه دائنو اليونان، الذي جوبه برفض كثيف من قبل الشعب اليوناني، تفيد أن الحكومات الأوروبية لم تلتفت البتة لهذا التصويت ولم تعطه أية أهمية تذكر. فالعرض الجديد الذي ألبسه الإعلام لباس «اتفاق» يحمل شروطاً أقسى من الشروط الأولى، والتنازلات التي زين الإعلام بها الاتفاق ليست أقل من غبار في عيون الشعب اليوناني المسحوق.
سلطت الضوء الأزمة اليونانية على انقسام أوروبي يرسم خطاً بين دول شمال الاتحاد ودول جنوبه. في شمال الدول الأنكل ساكسونية البرتستانتية وفي الجنوب الدول اللاتينية الكاثوليكية. ألمانيا تقود الكتلة الأولى ومن نافل القول إن التفكير الأنكلو ساكسوني في مسائل المال والمنفعة والقوانين وقواعده أكثر صرامة وأقل تأثراً بالمبادئ السياسية من التفكير اللاتيني الذي يدور الزوايا القانونية وصولاً إلى أهداف سياسية عامة.
فرنسا وإيطاليا واسبانيا دول رأت أن الحفاظ على اليونان داخل الاتحاد هو أهم من المليارات التي يجب دفعها في الاقتصاد اليوناني لانتشاله من عثرته. بالمقابل قادت ألمانيا وهولندا وفنلندا الكتلة التي أرادت أن يتجرع اليونان كأس اصلاحات مؤلمة تعيد البلاد ثلاثة عقود إلى الوراء وترهن ثروته لعقود طويلة أجلة، حتى ولو أدى رفض أثينا إلى خروج اليونان من منطقة اليورو ودخول أوروبا في نفق مظلم سياسياً وربما اقتصادياً.
الاتفاق الجديد أقسى من الاتفاق السابق، ما يشير إلى أن رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس تجاهل رسالة شعبه خضوعاً لضغوط دائنيه وعلى رأسهم أنجيلا ميركل.
الاتفاق الجديد هو بحق بمثابة «انتداب اقتصادي» يخضع البلاد لحكم المصرفيين وصناديق الاستثمار الذين «مدّوا اليونان بسلف بفوائد مرتفعة» ويريدون استرجاع أموالهم والفوائد رغم كل ما سبق لهم وجنوه من فوائد جرارة منذ عام ٢٠٠٨.
إلى جانب الإصلاحات الضرورية باعتراف الجميع مثل محاربة الفساد والتهرب الضرائبي (وهي رياضة وطنية في اليونان)، سيضطر تسيبراس إلى رفع نسب الضرائب المباشرة على الشركات اليونانية وخصوصاً شركات الملاحة (وفي ذلك إفادة مباشرة لهولندا ومرفأ أمستردام) وغير المباشرة أي ضريبة القيمة المضافة وخفض كبير في معاشات التقاعد ومعاشات الموظفين أي بمعنى آخر إفقار ٧٥ في المئة من الشعب اليوناني. ولكن الأهم وهو ما شددت عليه ألمانيا هو «خصصة مرافق كبيرة يونانية» مثل المرافئ والمطارات والبريد وشركات توزيع الكهرباء والغاز والنقل المشترك أضف إلى بيع مئات من الجزر اليونانية لأفراد وشركات خاصة (سبق لألمانيا أن وضعت يدها على عدد من الجزر لضمان دفع ديونها).
الهدية الوحيدة التي قبلت ميركل بالتنازل بها لتسيبراس هو جعل مقر اللجنة المكلفة بالخصصة في …أثينا وليس في اللوكسمبورغ دولة جنة الضرائب والمصارف.
لم نعد في عصر الاحتلال العسكري ولمنا عدنا إلى عصر الانتداب ولكن من دون أساطيل وجيوش واحتلال أراضي أنها الكولونيالية الاقتصادية التي بدأت في جنوب أوروبا وتستعد للوصول إلى الدول المنهارة نتيجة الحروب في الشرق الأوسط.
هكذا عندما تقدر الأمم المتحدة قيمة إعادة إعمار سوريا (على سبيل المثال) بـ ٣٠٠ مليار دولار فهذا يعني قبل كل شيء رهن الاقتصاد والأرضي السورية (على سبيل المثال) للمصارف وصناديق الاستثمار. وهكذا دواليك في ليبيا والعراق واليمن والآتي أعظم.