- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

الإعلام… صراع الحقيقة والموقف

نقطة على السطر

بسّام الطيارة

في نهاية القرن التاسع عشر، جرى جدال نظري في اليابان بين المفكر المحدث، تسوبوأوتشي شويوو، صاحب كتاب «جوهر الرواية»، وبين الكاتب الشعبي والسياسي الناشط توكاي سانشي، صاحب أول رواية سياسية «لقاء مع جميلات»، وصف فيها الحركات التحررية في العالم ومنها ثورة عرابي باشا. مفاد الجدال الذي شغل المفكرين في الأرخبيل الياباني، ووصلت أصداؤه إلى أوروبا، سؤال بسيط: «هل يكتب الروائي لدعم نضال الشعوب وتوقها للحرية؟». سؤال أجاب عليه سانشي بـ«نعم» قوية، بينما أجاب شويوو باقتضاب أن «الكاتب يكتب ليكتب».
اليوم يمكننا إسقاط هذا الجدال على الإعلام العربي. هل على الإعلام «نقل ما يراه أم عليه أن يرى ما يجب نقله؟». لم يعد ممكناً، بأي وسيلة من الوسائل، الهرب من الدفق الإعلامي الذي يرافق أي حدث كان. ويزداد الضغط الإعلامي كلما كان الحدث قريباً من اهتمامات المتلقي. هكذا كان مع مطلع ما سُمي بالربيع العربي، بحيث لم يعد يدري المتلقي العربي أين عليه أن ينظر؛ غرباً نحو تونس وليبيا أم شرقاً نحو البحرين واليمن، أم التوقف بين الشرق والغرب ومتابعة سقوط مبارك في ميدان التحرير في مصر؟ يضاف إلى ذلك نسمة «ربيع عربي» هنا في عُمان ولفحة هناك في القطيف وتحرك في شوارع الجزائر واحتجاجات فاترة في مراكش والرباط وبعض التقليد للربيع في لبنان وإعادة تنشيط ربيع أردني لا يكل ولا يمل.
ثم انطلق الربيع العربي في سوريا، لتضيق الحلقة الإعلامية مع سقوط الديكتاتوريات الثلاث الأولى وترنح ديكتاتورية عبد الله صالح، وسد مسالك نسيمات الربيع العربي في باقي الدول والممالك والإمارات. ولم يبق في الساحة إلا الثورة السورية وسلسلة القمع والقتل التي تبدو من دون نهاية وتطرح يومياً أرقام الضحايا بالمئات، وسط تشتت معارضة تبدو كمن يتنافس على سمك قبل ركوب قارب الصيد.
لا يوجد إعلامي إلا ويعرف أننا دخلنا مرحلة نهاية هذا النظام الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي. لا يوجد إعلامي إلا ويعرف مآسي الشعب السوري وتحمله لأوزار الحملة القمعية الرهيبة التي يحاول عبرها النظام في دمشق أن يديم عهده. لا يوجد إعلامي إلا وتنتابه لوعة مما يراه على شريط الأخبار اليومي.
وبالطبع، يعتقد المتتبعون أن ما يرونه هو «كل شيء». وهنا هم يخطئون، لأن الإعلام ليس “يوتيوب” ولا المواقع الاجتماعية ولا رسائل الأصدقاء على “فايس بووك”، ولا حتى الخطابات والتعليقات التلفزيونية على القنوات التي يحبون متابعتها.
لا يرى المتتبعون إلا نحو الـ٢٥ في المئة من «حقيقة كل شيء». الأسباب كثيرة متعددة: منها ما يتعلق بالمتتبع نفسه. «فهو يتابع ويلاحق فقط ما يحب سماعه»، فيضيع عليه قسم من «حقيقة لا يحب سماعها». كذلك يلعب المال الإعلامي دوراً في «ترويض» الحقيقة في عدد كبير من الوسائل الإعلامية، إما مراعاة لسياسة أمير أو ملك أو زعيم أو مراعاة لمصلحة للوسيلة الإعلامية من إعلانات أو مبيعات. وفي بعض الأحيان مراعاة لـ«قناعات» صاحب المؤسسة.
أما الخسارة الكبرى التي تنتقص من مقدار «حقيقة كل شيء» التي يجب أن تصل إلى المتلقي هي عندما يقع الصحافي أو الإعلامي في مستنقع مزج النضال بالعمل الإعلامي.
عندما يتوقف التفكير الإعلامي وخدمة المتلقي. عندما تأتي عواطفه وأهواؤه السياسية وميوله لتقف حاجزاً بين وبين الحقيقة التي عليه أن يوصلها… فيدجنها لتتلاءم مع ما يحب أن يراه.
ليس كل الإعلاميين هكذا. مع أن لكل الإعلاميين آراءهم وميولهم وأفكارهم.
صعوبة الإعلام اليوم هي في ترويض النفس وتدجينها عوضاً عن ترويض الحقيقة.
عمل الإعلامي هو الإعلام فقط. يكتب ليكتب الحقيقة فقط.