- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

لن تموت وحيداً

منة اللهمنة الله
عانقتةُ الجدة تماماً قبل أن تفارقَ الحياة.. و حُمِلَتْ على كتفيْ رجُليْن غريبيْن يصرخان: “في النعش سيدة.. ”
اسمها كان و لا زال “نابلس” .. و لو أنَّ الأسماء تتغيّر بعد الموت.. بعد الولادة.. بعد أول قبلة .. و آخر عناق.
قبل موتها، سُمّيَتْ ب”نابلس”.. بعد الموت، عُلِّقتْ ورقة عليها “بغداد”.
لكلّ من عشق نابلس.. تعرّفوا على بغداد:
وُلِدتُ في لبنان، و أمضيتُ ما يقارب الثلاثة عقود معظم أوقاتي في شمال لبنان.
لم أزُر بغداد يوماً. تمنيتُ لو سافرتُ كالحجاج، إلى نابلس مشياً على الأقدام، ثم دون تردد اتجهتُ إلى بغداد..
في سنّ المراهقة كنتُ أفكّر بأمريْن فقط… احداهما السفر…
في سن العشرين … غادرتُ… ثمّ عدتُ … كل ما قمتُ به كان أقرب للتنقل مع حقيبة فارغة.. لم أسافر حقاً … لأنني أحلم بسفر من نوع آخر … بحجّ من نوع آخر … لا صلاة … لا قيام … لا سجود.. لا تهجّد … حجٌّ إلى أرض مُنِعتْ فيها الصلاة..
بغداد… سمعتُ عنها لأول مرة حين كنتُ في السادسة عشر من عمري… حينَ أُعدمَ رجلٌ بكت لأجله الملايين.. حينها لم أعلم لمَ كان والديَّ غاضبيْن .. لكن بكيتُ دون جدوى … كانا غاضبيْن دون جدوى .. و أُعدم الرجل صبيحة عيد الأضحى… دون جدوى..
في السادسة و العشرين من عمري، استبدلت “العقد” بوشاح أحمر و أبيض.. ثم أسود و أبيض.. و منذ ذلك الوقت، اكتفيت بأنوثة “الوشاح” و “الجينز” .. و السترة العادية….شعرتُ بأنني أصبحت أجمل.. تباهيت … تفاخرت.. حملت حقيبة فيها كل أنواع “الألبسة” .. و “الأساور” و “العقود” .. و قطعتُ الحدود الوهمية، التي راقبتها مرات عديدة.. هي فعلاً لم تُرسم، لم تُخطّ على الأرض.. و لا حتى على الورق..
لكن حتى الآن.. لم أركن حقيبتي و معطفي في بغداد..
أشتاق لكلّ ما خُلقتُ لأجله.. أشتاق لوطنٍ كان يجب أن يكون وطني.. أشتاق للجدة نابلس .. لجدتي..
هي ماتت لأنّ الكون أراد أن يحيا.. هي ماتت لأنّ اسمها بعد الموت سيكون بغداد.. و كان فعلاً .. هي ماتت .. و قصصها بعد منتصق الليل تكاد أن تصل للنهاية.. من قال بأنّ “للأقصوصة” نهاية ؟؟ من اخترع عبارة «The end» ؟
الجدة نابلس.. قبل موتها … كانت تحتضر … طبعت على جبينه قبلة لا تليق بحفيد تنكّر لأرضه .. تنكّر لحكايات الطفولة … و همسَتْ في أذنه:
“قبل أن تقبّل امرأة.. اسألها .. هل تقبلين أن تصبحي جدّة ؟ لأن النساء الحقيقيات يصبحنَ جدات .. لا ينجبن .. بل يصنعنَ حياة.. صناعة الحياة لا تحتاج ل”رحم” .. لا تحتاج عقود زواج .. و لا أوراق ثبوتية – ثمّ سمّها ما شئت .. لكن اياك ثمّ إياك .. أن تسمّيها بغداد..
و امضِ حياتك… لأنك إن متّ …و ستموت حتماً .. و ستُحمل على الأكتاف كما تُحمل أطفال دوما في هذه اللحظات.. لكن لم … و لن … تموت مثليَ وحيداً..
امضِ في حال سبيلك .. لأن أُنثاكَ ستصبحُ جدة.. و ستطبع قبلة على جبين شاب من “الغوطة” … ما أجملها الأسماء حين تُلفظ كما ينبغي .. شاب نجا بأعجوبة من القنابل و الذخائر الحية … شاب و إن نجا بأعجوبة، سيموت لأن المعجزات لا تحدث إلا بوجود الأنبياء .. الأنبياء غادروا الأرض .. و كذلك الأرض .. غادرتْ من عليها..
امضِ حيث تشاء، بالله عليك لا تمر فوق بغداد … حُرمة الموت اسباحتها الكاميرات … لا تستبح عرض أنثاك أكثر من مرة .. لأنك و إن كنت من أحفادي …. ملعون الضمير .. و المصير ..حتى يعود الأنبياء ..”