الرئيسية » خاص «برس - نت» »

فاتن كشو ورواية «زمن الكلام الأخير»

خالد بريش*

الكاتبة فاتن كشو في روايتها ” زمن الكلام الأخير”، تفكك عادات مجتمعاتنا القبلية وعلاقاتها المعقدة وتحملنا في سفر على إيقاع كلماتها إلى المستقبل فنغوص قرنا ونصف في عبابه

لقد شكل الأدب بصورة عامة القاطرة التي حملت البشرية دائما نحو المستقبل، ونحو ما سيكون يوما كيفية وأنماطا. فعندما كتب جول ڤرن (Jules Verne) رواياته التي تحدثت عن اختراعات علمية كانت محض خيال في أيامه، أحب كثيرون رواياته وتهافتوا عليها، وانتقده آخرون. وإذا بالواقع الذي نعيشه حاليا يؤكد معظم ما سطره في رواياته، وكأن حالة من الإلهام قد خيمت على كيانه وهو يكتب ويسطر أحداث رواياته.

والأدب من حيث المتخيل، هو الذي يذهب بعيدا إلى حيث اللاممكن. فيجسد ما سيكون بمنظار يضعه الأديب على عينيه، فيرى ما لا يراه الآخرون. لتأتي السينما فتضيف عليه تقنياتها، محولة العمل الأدبي من فكري محض، إلى مرئي. وتعطيه بالتالي أبعادا، وثوبا يحمل كثيرا من الحقيقة. ورواية “زمن الكلام الأخير“، الصادرة عن دار زينب في تونس، هي من هذا النوع من الأدب الذي ذهب بعيدا من حيث تصوره لحياة الناس بعد قرن ونصف من الزمن. في عملية تخيل لما سيكون عليه حالنا في ذلك العالم، وطبيعة المخترعات العلمية، في تفاصيل تأخذ طابع الحقيقة وكأنها تحدث فعلا.

لكن قبل أن تدخلنا الكاتبة فاتن كشو عوالم روايتها، تطرح إحدى أهم إشكاليات الكتابة عموما وهي: عمن يبحث القارئ في الرواية التي يقلب صفحاتها بين يديه…؟ هل هو الواقع ليغوص فيه مع شخصيات الرواية…؟ أم عالم من الخيال يبعده عن واقعه…؟ ثم تتركنا لنسافر عبر أحداث الرواية قرنا ونصف قرن في المستقبل. ولكن ليس على طريقة أفلام رجال الفضاء الأمريكيين الخيالية من ألفها إلى يائها. إذ تترك لنا الكاتبة في روايتها مساحة من الواقع المعاش، فتتداخل الأحداث ببعضها، وتقترب من واقعنا، ونقترب بالتالي من أحداث الرواية في عملية تداخل فكري وموضوعي.

عالم خاص ابتدعته الكاتبة، ربما كنا على دربه والوصول إليه. عالم يستقل الناس فيه بدل السيارات ــ التي تتحول للسياحة، والفسح الهادئة، كعربات الخيل حاليا ــ طائرات شخصية، ذاتية القيادة. تتعرف على أصحابها بموجات ممغنطة، يطلقلها الجسم. وتحلق في ممرات جوية محددة، بموجب منظومة الأقمار الصناعية. والمراقب لحركة العلم والتكنولوجيا، يحس بأننا غير بعيدين عن هذا العالم، لأن من ينظر إلى أي سلعة الكترونية بين يديه حاليا، كالهواتف الذكية، وأجهزة الكومبيوتر الخ… وكيف كانت حلما في يوم من الأيام عندما ظهرت في الأفلام السينمائية، لندرك سريعا أن ذلك قادم لا محالة.

تتنقل الكاتبة في روايتها ما بين عالمين؛ عالم يبعد عنا قرنا ونضف، وعالم نعيشه الآن، يتصلان ببعضهما بخيط متين، وأحداث متلاحقة. وشخصيات لكل منها حكايته وقصته مع المجتمع، ومع ذاته، في قفزات من مشهد إلى آخر. وكأننا نشاهد فيلمين، أو نقرأ روايتين في آن معا. أو كمن يعزف لحنين مختلفين على آلة موسيقة واحدة في في نفس الوقت. ليبقى الإنسان في المسلكين هو الإنسان بمشاعره وعواطفه، وقاموس تعابيره الإنسانية، التي وكما تقرر الكاتبة في روايتها، ستبقى دون تغيير أو تبديل. بالإضافة إلى البحر رفيق الأحبة وكل الحالمين، والذي لا يغيب عن صفحة من الصفحات إلا ليعود ويظهر من جديد بعبارات وتوصيفات أخرى. البحر مستودع الأسرار والذكريات، والصديق الوفي الذي يستأمنه الناس على نظراتهم، فلا هو يضجر منهم، ولا هم يملون منه…!

روايتان، كل واحدة تذهب في اتجاه. توصلنا الأولى إلى لقاء مع التاريخ من خلال حبيب قادم من بلد صنع التاريخ يوما، وشكل حلما كأحلام ألف ليلة وليلة. قادم من بغداد المنصور، والرشيد، والمأمون. ليكون احتلال بغداد من قبل الأمريكان المحطة الأخيرة في هذا القسم من الرواية، مع بعض التفاصيل عن ملجأ العامرية الذي قصفوه بقنابل مخصبة، فقتل فيه قرابة أربع مائة طفل بريء. ومن ثم تم اغتيال العلماء العراقيين على أيدي الصهاينة، والأمريكان، وملاحقتهم في كل مكان من العالم.

بينما تحملنا الثانية في جولات نعبر فيها بعض مدن تونس، بكل تفاصيل أبنيتها، وشوارعها، وأحيائها، ومعالمها، وخصائصها المعمارية والإنسانية. فنتابع حروف الكاتبة، فنصل إلى مدينة المهدية التي تركها الفاطميون كمدينة متكاملة، شاهدة على عصرهم، وعلى عجزنا في مجاراة تلك الحضارة. إلى أن نصل إلى ثورة الياسمين، حيث تصف لنا الكاتبة حال البلد قبلها، وإرهاصات الثورة، وكأنها كانت حتما مقضيا كرد على الظلم الذي وصل لذروته.

وبالرغم من كل التقدم التكنولوجي والعلمي والثقافي الذي هو عنوان المستقبل، إلا أن العقل البشري يبقى هو هو، دون تغير، أو تبدل. معششا في ثناياه؛ الإيمان بالتابعة، والتشاؤم، والتفاؤل، والخوف من نظرات الآخرين وحسدهم، واللجوء إلى العرافين وقبور الأولياء، وما إلى هنالك من أمور ترتبط بالماورائيات، والخرافات. إنه الكائن البشري بكل الأثواب التي يُلبسها لنفسيته وشخصيته وروحه، فيستعصي فهمه، ومعرفة كنهه، وردات فعله، ونمطيات تفكيره.

تتطرق الكاتبة لمشاكل المجتمع المعقدة من خلال قصة حب في أساسها مباحة، ولكن ليس من وجهة نظر القبيلة. فتناقش المفهوم القبلي الذي يبدو أكثر وضوحا وحدة في عملية الزواج. حيث يكون الزواج من الأقارب، والقريبات، وأيضا من أبناء القبيلة. أو من أبناء المدينة والجهة لو تم التوسع في ذلك. فتردد الكاتبة تلك القاعدة التي تعتبر من الثوابت في مجتمعاتنا “… الرجل له كل الحرية في اختيار شريكته أما المرأة فإنها محكومة دوما بالأعراف والتقاليد“. فتُطبق قواعد القبيلة وعاداتها على الأنثى لكونها الحلقة الأضعف في المجتمعات الذكورية، ولأن في خضوعها للقواعد حفاظ على القبيلة ونسلها…!

وتطرق باب مآسي المجتمع أيضا من خلال معاناة امرأة يتركها زوجها المهاجر إلى أوروبة بحثا عن حلمه، ويدفنها مع ولدين دون أي معيل لهم في الحياة. فتتزوج برجل يغريها برجولته، ومواقفه. ثم يترك لها الآخر ولدا جديدا. فتواجه المجتمع بفقرها، وبثلاثة أولاد تريد أن تربيهم، وتعلمهم. فلا يعطيها المجتمع سوى الجلد بألسنة لا ترحم، ونظرات سخرية، وامتهان، وتغوُّل رجاله وطمعهم بها وبلحمها، كونها تعيش في المجتمع مع أولادها بلا زوج ورجل يحميها. أمٌ عليها أن تواجه المجتمع بسبب ولد لم يتم تسجيله في السجلات الحكومية، لأن الأب كان مخادعا غشاشا في كل شيء. فتضطر أن تقدم عِرْضِها على طبق من فضة إلى أحد القضاة لكي يقوم بفرض الأمر الواقع على الزوج المزيف، ويأمره بالاعتراف بولده. إنه نظام المحاكم في بلادنا، بل نظام الموظف الكبير القوي الذي يحاول أن يستفيد من منصبه وسلطته للوصول إلى إرضاء شهواته.

ويأتي الشعر في هذا العمل السردي كاستراحة مسافر في وسط الطريق، وكعنصر خارجي، متناسقا مع حبكة السرد، ومكملا له. بل يُعطي السرد بُعدا آخر، وينقل القارئ إلى عوالم أرادت الكاتبة أن يذهب القارئ إليها. فالنصوص الشعرية التي تتداخل مع السرد، هي من نظم الكاتبة حيث إن لها مع الشعر تجربة وأصدرت ديوانا تحت عنوان ” منذ عدت من وهمي”.

ويأخذ الفساد الإداري والأخلاقي الذي ساد عالم الموظفين الإداريين في مرحلة الرئيس بن على حيزا مهما في هذا العمل السردي. وكذلك شيوع الاعتقالات التعسفية لرجال الفكر والتعليم، وللمناضلين المنضوين في الجسم النقابي العمالي والوظيفي، ولكل من عارضه. وكذلك سأم الشباب، وتفشي البطالة، والرشوة، ولجوء الشباب إلى الإدمان، وتسكع العاطلين عن العمل، وقيام بعضهم بالسرقة من أجل ركوب مراكب الموت (الحرقة)، وتسليم رقابهم لتجار البشر، من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى للمتوسط.

لننتقل عبر السطور وليس بطائرة الكاتبة المسيرة بالأقمار الصناعية إلى مرحلة التحضير للثورة وبدء إرهاصاتها. فتحدثنا عن بروز عالم جديد بكل ما فيه. شباب وشابات لديهم أجهزة حواسيب (كومبيوتر)، يتواصلون مع بعضهم برموزهم الخاصة التي لا يفهمها إلا هم، برسائل مشفرة داعية إلى الثورة على القمع والدكتاتورية، مستخدمين كل الوسائل الأخرى المتاحة؛ من رسومات، وكتابات على الجدران، ونظم قصائد الشعر، وإطلاق الشعارات، وتأليف الأغاني الخاصة بهم، مثل أغاني الراب التي تواكب وتشرح معاناة التوانسة، وتدعو للنهوض في وجه الظلم والطغيان:

امشوا في الشوارع

شوفوا الناس كي تعاني!

اهبطوا للأسواق

شوفوا الدنيا كي شعلت فيها النار!

* كاتب وباحث مقيم في باريس

 

اقرأ للكاتب نفس:

التعليقات: 2

  1. عمران العميري:

    قرأت الدراسة للاخ الكاتب عن قصة الكاتبة والشاعرة فاتن كشو(زمن الكلام الاخير) تشوقت لاقتناء الرواية .ولكن سطوة الكاتب اوضح الكثير بنقاء حرفه واسلوبه السخي المحبب للمتلقي ….انها قصة ترسم الواقع بين رحلتين .رسمتها الكاتبة فاتن كشو .بأسلوب ذكي تحمل في الاولى قلمها وبنفس الوقت يكون القلم سلاح مباشر للمناضل والثائر ………..اهنئك يا فاتن ودمت بصمة منيرة على صفحات الادب العربي .بالتوفيق لك والى من وضع هذه القراءة المهنية المكتنزة بجمال رصفها وحسن وصفها .تحياتي لكما

    تاريخ نشر التعليق: 2019/05/03
  2. فهد عنتر الدوخي:

    قراءة مهنية وتحليل راقي، قد جعلنا نتصفح الرواية ونقترب ونعرف اسلوب الروائية الأستاذة فاتن كشو ولغتها الباهرة كما اشار الأستاذ الناقد المتمرس بتفكيك شفرة السرد لكن اتمنى ان تقع بين ايدنا نسخة من الرواية وفقكم الله للمزيد

    تاريخ نشر التعليق: 2019/02/12

اُكتب تعليقك (Your comment):

صحافة اسرائيل

إعلان

خاص «برس - نت»

صفحة رأي

مدونات الكتاب

آخر التعليقات

    أخبار بووم على الفيسبوك

    تابعنا على تويتر

    Translate »
    We use cookies to personalise content and ads, to provide social media features and to analyse our traffic. We also share information about your use of our site with our social media, advertising and analytics partners.
    Cookies settings
    Accept
    Privacy & Cookie policy
    Privacy & Cookies policy
    Cookie name Active

    Privacy Policy

    What information do we collect?

    We collect information from you when you register on our site or place an order. When ordering or registering on our site, as appropriate, you may be asked to enter your: name, e-mail address or mailing address.

    What do we use your information for?

    Any of the information we collect from you may be used in one of the following ways: To personalize your experience (your information helps us to better respond to your individual needs) To improve our website (we continually strive to improve our website offerings based on the information and feedback we receive from you) To improve customer service (your information helps us to more effectively respond to your customer service requests and support needs) To process transactions Your information, whether public or private, will not be sold, exchanged, transferred, or given to any other company for any reason whatsoever, without your consent, other than for the express purpose of delivering the purchased product or service requested. To administer a contest, promotion, survey or other site feature To send periodic emails The email address you provide for order processing, will only be used to send you information and updates pertaining to your order.

    How do we protect your information?

    We implement a variety of security measures to maintain the safety of your personal information when you place an order or enter, submit, or access your personal information. We offer the use of a secure server. All supplied sensitive/credit information is transmitted via Secure Socket Layer (SSL) technology and then encrypted into our Payment gateway providers database only to be accessible by those authorized with special access rights to such systems, and are required to?keep the information confidential. After a transaction, your private information (credit cards, social security numbers, financials, etc.) will not be kept on file for more than 60 days.

    Do we use cookies?

    Yes (Cookies are small files that a site or its service provider transfers to your computers hard drive through your Web browser (if you allow) that enables the sites or service providers systems to recognize your browser and capture and remember certain information We use cookies to help us remember and process the items in your shopping cart, understand and save your preferences for future visits, keep track of advertisements and compile aggregate data about site traffic and site interaction so that we can offer better site experiences and tools in the future. We may contract with third-party service providers to assist us in better understanding our site visitors. These service providers are not permitted to use the information collected on our behalf except to help us conduct and improve our business. If you prefer, you can choose to have your computer warn you each time a cookie is being sent, or you can choose to turn off all cookies via your browser settings. Like most websites, if you turn your cookies off, some of our services may not function properly. However, you can still place orders by contacting customer service. Google Analytics We use Google Analytics on our sites for anonymous reporting of site usage and for advertising on the site. If you would like to opt-out of Google Analytics monitoring your behaviour on our sites please use this link (https://tools.google.com/dlpage/gaoptout/)

    Do we disclose any information to outside parties?

    We do not sell, trade, or otherwise transfer to outside parties your personally identifiable information. This does not include trusted third parties who assist us in operating our website, conducting our business, or servicing you, so long as those parties agree to keep this information confidential. We may also release your information when we believe release is appropriate to comply with the law, enforce our site policies, or protect ours or others rights, property, or safety. However, non-personally identifiable visitor information may be provided to other parties for marketing, advertising, or other uses.

    Registration

    The minimum information we need to register you is your name, email address and a password. We will ask you more questions for different services, including sales promotions. Unless we say otherwise, you have to answer all the registration questions. We may also ask some other, voluntary questions during registration for certain services (for example, professional networks) so we can gain a clearer understanding of who you are. This also allows us to personalise services for you. To assist us in our marketing, in addition to the data that you provide to us if you register, we may also obtain data from trusted third parties to help us understand what you might be interested in. This ‘profiling’ information is produced from a variety of sources, including publicly available data (such as the electoral roll) or from sources such as surveys and polls where you have given your permission for your data to be shared. You can choose not to have such data shared with the Guardian from these sources by logging into your account and changing the settings in the privacy section. After you have registered, and with your permission, we may send you emails we think may interest you. Newsletters may be personalised based on what you have been reading on theguardian.com. At any time you can decide not to receive these emails and will be able to ‘unsubscribe’. Logging in using social networking credentials If you log-in to our sites using a Facebook log-in, you are granting permission to Facebook to share your user details with us. This will include your name, email address, date of birth and location which will then be used to form a Guardian identity. You can also use your picture from Facebook as part of your profile. This will also allow us and Facebook to share your, networks, user ID and any other information you choose to share according to your Facebook account settings. If you remove the Guardian app from your Facebook settings, we will no longer have access to this information. If you log-in to our sites using a Google log-in, you grant permission to Google to share your user details with us. This will include your name, email address, date of birth, sex and location which we will then use to form a Guardian identity. You may use your picture from Google as part of your profile. This also allows us to share your networks, user ID and any other information you choose to share according to your Google account settings. If you remove the Guardian from your Google settings, we will no longer have access to this information. If you log-in to our sites using a twitter log-in, we receive your avatar (the small picture that appears next to your tweets) and twitter username.

    Children’s Online Privacy Protection Act Compliance

    We are in compliance with the requirements of COPPA (Childrens Online Privacy Protection Act), we do not collect any information from anyone under 13 years of age. Our website, products and services are all directed to people who are at least 13 years old or older.

    Updating your personal information

    We offer a ‘My details’ page (also known as Dashboard), where you can update your personal information at any time, and change your marketing preferences. You can get to this page from most pages on the site – simply click on the ‘My details’ link at the top of the screen when you are signed in.

    Online Privacy Policy Only

    This online privacy policy applies only to information collected through our website and not to information collected offline.

    Your Consent

    By using our site, you consent to our privacy policy.

    Changes to our Privacy Policy

    If we decide to change our privacy policy, we will post those changes on this page.
    Save settings
    Cookies settings