ترامب على السطح وثم…
في ثلاث مقالات سابقة وجدنا أن عالمنا هذا مؤلف من طابقين الأعلى والأسفل. ووجدنا أيضاً أن هذا التقسيم لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالصورة النمطية التي تطفو على سطح الإعلام وحتى في مراكز البحث ، أي أنه لا يفصل بين الغرب الغني المتقدم والجنوب الفقير «على طريق النمو» (وهو تعبير اختلقته موجة politically correct).
فالطابق الأعلى «تسكنه مجتمعات ثرية أو حكامها أثرياء لهم لغة خاصة لغة المال والقوة وفي عديد من الأحيان لغة السلطة المستبدة، يتفاهمون بها، ويخططون لما يمكن أن يأوول أمر الطابق الأسفل ومن من قاطنيه يمكنه الانتقال إلى طابقهم المحصن. أما الطابق الأسفل فهو يدب تحت وطئة وثقل ما هو فوقه، وإن كان بعض قاطنيه تشرأب رقابهم للأعلى..
كان هذا قبل وصول ترامب للمرة الثانية إلى البيت الأبيض !
حتى قبل وصوله كانت شعارات «MAGA» تعلن بصراحة أنه يريد أن يسكن طابقاً مختلفاَ ولا يريد مشاركة حلفاءه التقليديين نفس الطابق: يريد أن يبني طابقاً مستقلاً على «سطح هذا العالم-القرية». وما أن وطأ البيت الأبيض حتى بدأ بتطبيق برنامجه المنفرد. ففي غضون ثلاثة أشهر، أصدر الرئيس الجمهوري العديد من التصريحات والاستفزازات وأيضاً القرارات، فارضاً طموحاته التوسعية والحمائية على بقية العالم. ولم يسلم الاتحاد الأوروبي، الشريك القديم للولايات المتحدة، من هذه الأزمة.
ليس فقط الأوروبيين فالناتو وشؤون الدفاع وضعت في سلة ورفعها ترامب إلى السطح.
تطبيقاً لمبدأ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. فهو منذ سنوات، ينتقد دول حلف شمال الأطلسي بسبب قلة استثماراتها العسكرية واعتمادها على الولايات المتحدة. بالتالي يرى ترامب أن التحالف الأطلسي، الذي حافظ على السلام في أوروبا لمدة ٨٠ عاماً، ضعيفاً بسبب تراجع قوة الحلفاء نسبة إلى القوة التي أسسته أي أميركا.
من هنا يفضل دونالد ترامب التحالف مع بعض الأقوياء من الطابق الأول (روسيا؟ اسرائيل؟) بدلاً من الدفاع عن كل قاطني الطابق فهو يعتبرهم ضعفاء، من هناك التهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي.
إذا كان هذا التهديد لا يكفي …جاء الهجوم الشامل على الرسوم الجمركية، من على السطح بشكل قرارات حرب تجارية شاملة على الطابق الأسفل والطابق الأول . فهو حول النظام الاقتصادي الأميركي إلى نظام حماية تجارية عدوانية، باسم «أميركا أولا» (السطح أولاً)، مما أدى إلى إثارة سلسلة من ردود الفعل في الأسواق العالمية.
في الواقع فإن المستهدف هو الطابق الأول: بكين خصمه الرئيسي في مسائل التجارة، ولكن أيضاً الاتحاد الأوروبي، أي كل ما يراه في وضع اقتصادي يعتبره غير متوازن… خاصة مع الحلفاء عجز تجاري بقيمة 300 مليار دولار مع القارة العجوز.
توازن الميزان التجاري بين السطح والطابق الأول لا يكفي ترامب : ففي بال الرئيس أيام وليالي «شبه قارة ثلجية قطبية» غرينلاند، التي تقع على بعد أكثر من ٣٢٠٠ كيلومتر من واشنطن…. يريد وضع اليد عليها «بدفع الثمن أو بالقوة» وقال خلال خطابه أمام مجلسي الكونغرس: «نحن بحاجة إليها من أجل أمننا الاقتصادي».
ومن على السطح شرد نظر ترامب إلى شريك سابق يريد أن «يشده» نحو السطح: كندا الجارة، الذي اقترح عليها الانضمام إلى الولايات المتحدة وإلا…
كذلك أوكرانيا هي بالنسبة له رمز للنظام العالمي المضطرب.
نظرة السطح إلى الطابقين هي نظرتان متشابهتان، والمعاملة قاسية مع الجميع. أفضل مثال صورة انتشرت حول العالم تروي كيف في ٢٨ فبراير/شباط، دعا رئيس الدولة الأمريكي «نظيره» الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، إلى المكتب البيضاوي على السطح، وفي ما كان من المفترض أن يكون لحظة لإطلاق شراكة بين واشنطن وكييف للتصدي لروسيا، وتحول اللقاء الى عملية تأديب للأوكراني ثم جدال حاد،ودعوة لتقديم تنازلات استراتيجية على المدى الطويل مع اتفاق بشأن الموارد المعدنية للمساعدة على إنهاء الحرب مع روسيا. النتيجة: إلغاء المؤتمر الصحفي المشترك وغادر زيلينسكي واشنطن خالي الوفاض.
روسيا أيضاً تصنف «طابق أول» في محاولة لإظهار نوع من التوازن صرخ ترامب من على السطح في موقع التواصل الاجتماعي خاصته: «فلاديمير، توقف!» في إشارة إلى قصف المدن الأوكرانية، مع تهديد بعقوبات محتملة ضد موسكو.
ينظر ترامب من على سطح العالم-القرية إلى غزة التي تخضع لحرب إبادة شرسة ويرى فيها «كوت دازور» ويريد تحويلها إلى منتجع للأثرياء. رغم صداقته المتينة مع نتانياهو ودعمه اللامحدود للدولة العبرية عبر السلاح ومد الجسور الديبلوماسية مع «جيرانها» من قاطني الطابق الأعلى تحت تسمية «اتفاقات ابرهام» ، إلا أن اسرائيل غير مدعوة للصعود إلى السطح. وها هو يتركها «تتصرف» مع اليمن وقد أوقف دعمها وحمايتها !
كيف يتصرف الحلفاء السابقون؟ إسرائيل راضية طالما تصلها الأسلحة، حلفاء «اتفاقات ابرهام» يستعدون لشراء أسلحة من السطح، واليابان يتحرك مخملياً في محاولة لحفظ مصالحه.
في مواجهة تهديدات الانسحاب من الحلف الأطلسي، قدمت، من جهتها، رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في٤ مارس/آذار، خطةً لأوروبا «أكثر أمنًا ومرونة». أُطلق على هذه الخطة اسم «إعادة تسليح أوروبا»، وهي الآن تُعرف باسم «الهدف 2030»، وتهدف إلى معالجة التحديات الأمنية التي تواجه القارة بعد صعود أميركا إلى السطح. ويوفر هذا المشروع ما يقرب من 800 مليار يورو على مدى خمس سنوات لتحديث القدرات العسكرية لدول الحلف السبع والعشرين كما لدعم شراء المعدات العسكرية الأوروبية…ولكن ليس للتصدي للسطح.
كما ازداد التعاون بين قاطني الطابق الأول إذ قرر الاتحاد الأوروبي فتح مفاوضات مع الصين، وكذلك مع اليابان وخصوصاً مع كندا. ولكن التودد لترامب ما زال حاضراً ويشهد على ذلك الزيارات المتتابعة للسطح من كافة العواصم وكل يحاول التفاوض بشأن التعرفات الجمركية المقررة أو الآتية بعد ٩٠ يوماً.
بمناسبة جنازة البابا فرانسيس في روما في ٢٦ أبريل/نيسان، شهدت العلاقات الشخصية تحسناً ملحوظاً، وبشكل خاص السياسية مع أوكرانيا. واتفقت رئيسة الاتحاد الأوروبي فون دير لاين والرئيس ترامب على الاجتماع في «الوقت المناسب»، عندما تكون اتفاقية حل الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي على الطاولة وجاهزة للتوقيع.
في روما رغم أن الراحل، المدافع الشرس عن اللاجئين في مواجهة ترامب الأول، ظهر الود على وجه ترامب وحين صافح المتواجدين في عزاء الكاثوليكية، ظن البعض أن ترامب يستعد لترك السطح والعودة إلى الطابق الأول، خاصاً مع بروز التراجع الحاد في شعبيته إذ أن ٥٥٪ من الأميركيين يرفضون تصرفاته كرئيس، وفقا لاستطلاع رأي وهو مستوى لم يشهده رئيس على عتبة ١٠٠ يوم في منصبه منذ ثمانية عقود. وأنه قد يضطر إلى إعادة ضبط بعض الاتجاهات السياسية، وخاصة على الصعيد الدولي.
جواب ترامب جاء على لسانه: ويسأل مراسل إحدى وسائل الإعلام الرئيس الأمريكي إن كان هناك شخص يفضله أو يرجحه لخلافة البابا فرنسيس كرأس للكنيسة الكاثوليكية، ليجيب ترامب (ممازحا أو بجد) :«أود أن أصبح انا البابا، سيكون ذلك خياري الأول..»