تقليدية اجتماعية… لا إيديولوجية

البروفسور شربل داغر*

يعتقد البعض من المخلصين (لقيمٍ واعتقادات وأحزاب وعقائد)، أن مجرد التوصل إلى خطاب مناسب، إلى صيغة فكرية بعينها، يحلّ المشاكل في أحوالنا الصعبة، بل قد يُعدمها: لعلهم يحلّونها في الخطاب، لا في الشارع، ولا في البيت بأي حال.

أعتقد، بخلافهم، بأنهم لم يُجروا قراءة “جذرية” فعلا لخطابهم، لتجربتهم، بل لتجاربهم: منهم من كان ماركسيا، ثم انتحى زاوية أو مذهبا فيها، فبقي على حاله. أو وجد أن “الإسلام هو الحل” (السني أو الشيعي، في صيغ متعددة ومتنوعة). أو وجد ان الليبرالية أو العلمانية هي الحل…
هذا يرسم مشهدا ايديولوجيا، وفكريا، “تنازليا”، لصالح “الإسلام السياسي”، أيا كانت صيغته. وتمَّ هذا على حساب مجموعات عريضة من الخطب والصيغ، التي تبدأ بالقومية، والليبرالية، والماركسية ولا تنتهي بالعلمانية والعقلانية والحداثوية.

إن رسمَ هذا المشهد، منذ “جمهورية” الخميني “الإسلامية”، صحيحٌ، ولكن في جانب منه وحسب. إلا أن كثيرا من هذه الدعاوى المتراجعة بقيت خطابات “خارجية” من دون شرعية مرتضاة، بل مفروضة في غالب الأحيان. أما “الإسلام السياسي” فما احتاج إلى مثل هذه الشرعية، إذ هو مُحَصِّلٌ لها، لبعضها، بفعلِ التدين الشعبي، الذي بقي “شغّالا” – وحده – في زمن التعسف القمعي.

ما أريد أن أشدد عليه، هو أن الخطاب المتهافت، المتداعي، منذ مطالع الثمانينيات، بقي خطاب مثقفين، أو خطاب سلطة مفروضة، في الوقت الذي لم تواجه بعض الحكومات مثل هذه الأزمة، أي بذات الحدة، إذ كانت تمتلك بعضا من الشرعيتَين: الدينية والسياسية، في الوقت الذي تداعت فيه “الجمهوريات” الشعبية، والثورية، أي ما كان يُسمى (هل تذكرون؟) “الأنظمة التقدمية” تحديدا.

أقول هذا لكي أشدد على أن المشكلة الأساس هي مشكلة بناء “الشرعية”. وأن بناءها لا يستند بالضرورة إلى “وَصْفة” ثقافية وخطابية، وإنما إلى النفاذ إلى البنية الاجتماعية المتمكنة من تقليديتها، قبل خطابات الدين والسياسة والفكر.
ما يعيق التقدم هو استمرار علاقات الولاء والريعية وتسليم “الأعناق قبل الأرزاق” وغيرها، التي تُحوِّل أي خطاب (مهما كانت مقادير التحديث فيه) إلى ألعوبة محلية، تقليدية: يٌوظفها صاحب الإرث التقليدي لكي يكون ليبراليا؛ ومَن يكسب المال (وكان في إمكانه أن يصبح ليبرالي النزعة) لكي يفوز بلقب “المشيخة”؛ ومن يبذل الكثير في المقاومة، لكي يُحوّل أفعال المقاومة إلى انتصارات “إلهية”…
مثال بسيط: يكفي أن تُقنع أو تَفرض على إحداهن الحجاب، لكي تستحصل منها على ثقافة الطاعة، كاملة في الغالب…
هذا يعني أن الشرعية لا تزال مطلوبة من قيم قديمة، أو قائمة عليها، ولم تبلغ في النفوس والسلوكات ما يحمله الدستور أو القوانين او الحزب او الخطاب من قيم وصفات متعينة في الزمن الحديث.

*كاتب واستاذ في جامعة البلمند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *