في حياته المفعمة بـ “التزمت”، خطط حسن نصر الله أو كان مشاركاً في قتل إسرائيليين، أميركيين، دروز، ومسيحيين لبنانيين. لكن المجموعة الدينية – العرقية الكبرى التي قتلها كانت من سوريين من المسلمين السُنة.
تصفيته حدث على نطاق إقليمي وتاريخي. وستبقى موجات الصدى تنتشر في المنطقة، وكأنه أُلقي بصخرة كبيرة في قلب بركة.
تجسّد صور الفرح الجماهيري في سورية جيداً المعنى الذي حمله نصر الله، كرسول للنظام الإيراني ومظالمه على الأرض.
قليلة هي عمليات التصفية ذات المعنى الاستراتيجي، بعيدة المدى.
هكذا كانت عملية شعبة الاستخبارات وسلاح الجو. وعن قصد كتب هكذا: شعبة الاستخبارات وسلاح الجو. في هذه الصفحات نشرت آلاف الكلمات عن قصورات الاستخبارات قبيل 7 تشرين الأول. لكن موجة الإنجازات الأخيرة لإسرائيل حيال عدوها الأكبر، على حدودها، تنبع أساساً من إنجازات استخبارية وتكنولوجية غير مسبوقة.
حتى لحظاته الأخيرة لم يفهم نصر الله شدة اختراق الجيش الإسرائيلي لقدراته.
شعبة الاستخبارات ذاتها، التي فشلت على نحو رهيب، وكانت عمياء تماماً، هي التي وفرت ولا تزال توفر – إلى جانب سلوك لامع في “الموساد” – المطلوب.
الكثير من العمل كان مطلوبا لأجل الوصول إلى اللحظة التي يرتبط فيها رئيس الأركان برئيس الوزراء ووزير الدفاع ويقول لهما إنه عملياتياً يجب العمل الآن لأنه ربما بعد بضع ساعات يحتمل أن يكون نصر الله يتحرك في نقطة أقل مثالية للتنفيذ.
مثلما كتب هنا مرات عديدة في الأشهر الأخيرة، لم يستعد الجيش الإسرائيلي بالتأكيد لاجتياح “حماس” لإسرائيل. لكنه يتدرب منذ 17 سنة على إمكانية حرب لبنان الثالثة.
يرتبط الكثير من إنجازات الأسابيع الأخيرة عميقاً بأعمال قيادة المنطقة الشمالية بالمفهوم العنيف لجهاز الأمن الذي صفى بنى تحتية واسعة لـ “حزب الله”، وبخاصة إطلاق الصواريخ في شهور طويلة من الأعمال التي لا تنتهي.
يوجد معنى إقليمي عميق لنجاحات الجيش و”الموساد”. فهي تبدأ بتغطية عجز الردع الرهيب الذي أدى إلى الهجمات على إسرائيل في هذه السنة الصعبة، ولا يزال لدى إسرائيل مفاجآت جاهزة.
وزير الدفاع ورئيس الأركان، اللذان يتعرضان لضربات لا تتوقف من آلة السم، هما اللذان يتصدران القرارات العملياتية هنا. إذا لم يفهم “حزب الله” وإيران الرسالة، فإن عملية برية دقيقة توجد بالتأكيد على الطاولة.
تحدثت مع لبناني، أول من أمس. ليس مسيحياً. اجتهد أن يخفي سعادته وقدم لي تقديره. لبنان على شفا حرب أهلية. القوة المسلحة الكبيرة لديها كانت “حزب الله”. فقد ملك مفاتيح العنف. قبله، كان السوريون. قبل السوريين كانت حرب أهلية لفترة قصيرة. وماذا الآن؟ سأل. أفاد اللبناني بتوتر متصاعد في بيروت. “نعيم قاسم لا شيء”، قال عن نائب نصر الله، “ليس لديه قوة وليس لديه جيوش. كل شيء يمكن أن يتغير الآن، إن شاء الله. وقصد تحول لبنان إلى دولة حقيقية: أو إذا تواضعنا، حقيقية أكثر.
لأول مرة منذ بداية الحرب يمكن أن نقول بيقين تام إن المحور الإقليمي الإيراني ضعف بشكل استراتيجي: أصبح “طوفان الأقصى”، الذي أطلقه يحيى السنوار، طوفان هجمات لسلاح الجو على الضاحية.
ومن يعتقد أن “حزب الله” يضبط نفسه بعدم إطلاق آلاف صواريخه فإن هذا ليس الوضع. هو يريد أن يطلق أكثر، وفي هذه المرحلة لا ينجح.
بدأت إسرائيل تشخص منحى الحل: نزول جيش لبنان نفسه إلى الحدود، وعملياً طرد “حزب الله” كقوة عسكرية من الجنوب. هذا ليس قريباً، لكنه اقترب جداً في الأسابيع الأخيرة. تحسنت إمكانية الأمن والاستقرار في المنطقة في الأيام الأخيرة. إذا كانت ثمة حكمة سياسية في إسرائيل (وهي عملة نادرة لدى قيادتنا) ودبلوماسية قوية أميركية (عملة أكثر ندرة)، فيجب استغلالها.
الغرب، بالطبع لا يفهم هذه الدقائق الإقليمية. التصريح المشترك للرئيس بايدن والرئيس ماكرون، الذي دعا إلى وقف النار، مثّل هذا بدقة. فعلى مدى سنة تهاجم دولة سيادية اسمها لبنان، من خلال منظمة “إرهاب” معروفة ومحددة جيداً، إسرائيل.
في اللحظة التي تحول فيها إسرائيل انتباهها من جبهة الجنوب، وتضرب العدو الذي فتح حرباً في 8 تشرين الأول، تضج القوى العظمى من التصعيد.
تفويتهم للفرصة واضح ومكشوف: منذ بداية الحرب لم يفهموا على الإطلاق أن إسرائيل ستصعد وتصعد ردود أفعالها إلى أن نصل إلى واحد من ثلاثة أوضاع: الأول، صفقة في الجنوب تؤدي أيضاً إلى وقف نار في الشمال، على فرض أن تكون هناك تسوية دبلوماسية تبعد “حزب الله” عن الجدار.
الثاني، يحسم “حزب الله” استراتيجياً باتجاه وقف حربه ويقطع الحلف الذي عقده مع “حماس”، والأخير هو اشتعال يؤدي إلى حرب شاملة تأمل إسرائيل أن تخرج منها ويدها هي العليا، والوكيل المركزي لطهران ضعيف ومحطم.
وصف موظفين أميركيين للوضع، بشكل متواصل، كان يتناول حرباً في الشمال كنتيجة فرعية غير لطيفة للحرب في غزة. نحل في غزة وعندها سيواصل “حزب الله” إطلاق النار، نصل إلى تسوية مخادعة ما، وكل شيء سيكون على ما يرام. هذا يعني أن لا شيء سيكون على ما يرام. لكن الأسرة الدولية لا يهمها الأمر حقاً. فهم ليسوا وكلاء التغيير في الشرق الأوسط، هم فرسان الهدوء. كما أن فكرة أن “حزب الله” سينزل عن الشجرة من خلال تسوية حدود يمكنه أن يبيعها كإنجاز للجمهور اللبناني كانت أساساً تفكيراً إيجابياً. لم يفتح نصر الله النار بسبب الجدال على الخط الأخضر في رأس الناقورة، وهو ما كان سيوقفها بسبب تحقيق الأهداف الإضافية هذه.
في كل حال، في الجيش الإسرائيلي، وفي قيادة الشمال، وفي جهاز الأمن لم يحبوا أبدا الأفكار المخادعة على أنواعها.
رئيس الوزراء نتنياهو، الذي لم يكن يرغب في أن يهاجم في 11 أيلول بضربة مفاجئة، خوفاً من ضربة شديدة يوجهها “حزب الله” إلى إسرائيل رفض أيضاً بثبات إضافة إعادة سكان الشمال إلى بيوتهم كهدف للحرب وذلك رغم الدعوات العلنية والهادئة من شريكيه في حينه في الحكومة، غادي آيزنكون وبيني غانتس.
تغير هذا في الأسابيع الأخيرة. في نهاية الأمر كان النهج الكفاحي لوزير الدفاع غالانت ولرئيس الأركان هليفي هو الذي قرر النبرة بالنسبة للساحة اللبنانية، واقتنع نتنياهو.
كان قرار تصفية نصر الله إجماعا بين هؤلاء الأشخاص الثلاثة، ومسائل مثل التوقيت، السفر إلى نيويورك، الانتقال من نقاش الكابينت إلى المكالمة الهاتفية يوم الجمعة ترتبط أساساً بحسابات سياسية. فالمسؤولية عن 7 تشرين الأول تقع على رئيس الوزراء، وزير الدفاع، ورئيس الأركان. والمسؤولية عن النجاحات الأخيرة تُعزى إليهم.
تقرر التقاليد الإقليمية أن العدو المضروب بشكل شديد جداً يتمنى بالذات مناهج أكثر تطرفاً ويرفض مواجهة الواقع.
هكذا كان بعد حرب “الأيام الستة”، ولاءات الخرطوم الثلاث، وهكذا يحصل مع “حماس” في القطاع، التي يتصلب قلبها أمام ضائقة الغزيين، وهذا قد يحصل مع إيران و”حزب الله”.
المدخل لنصر استراتيجي لإسرائيل يوجد هنا: نافذة فرص نادرة لتغيير وجه المنطقة، فيما يكون المحور الإيراني مضروباً، والحكام العرب ينظرون بدهشة ورضا لتصفية العدو القديم.
المدخل للفشل يوجد هو أيضاً هنا: الانجرار إلى حرب استنزاف بنمط إيران – العراق، يدفع فيها الإيرانيون ثمناً أدنى مما دفعوه في الحرب ذاتها، ويواصلون حياتهم كالمعتاد، فيما يوجهون أعمال الحوثيين، الميليشيات العراقية، ما تبقى من “حزب الله”، وبالطبع يواصلون مساعدة “حماس”.
إسرائيل لا يمكنها ان تسمح لنفسها بالسيناريو الثاني، مثلما جسد الأمر تخفيض المستوى الائتماني لها.
قبيل هذه الحرب فشل المستويان السياسي والعسكري فشلاً ذريعاً وصادماً. لكن منذئذ يؤدي الجيش مهامه بشكل أفضل بكثير ويحقق نتائج.
من الصعب الإشارة إلى نتيجة سياسية إيجابية منذ بدء الحرب، باستثناء صفقة المخطوفين الأولى.
تقدم جهاز الأمن للحكومة بإمكانية تغيير للوضع الاستراتيجي لإسرائيل بشكل إيجابي، ومن المحظور تفويتها.