وثيقة الأمن الاستراتيجي وضعتها «الدولة العميقة» وتبناها ترامب
بسّام خالد الطيارة
شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً” (MAGA) يحذر “أوروبا القديمة” من خطر”محو حضارتها”.
لماذا تنظر رؤية “أمريكا ترامب” إلى الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الأوروبية من منظور التدهور؟
الجواب بسيط: هذه النظرة هي استراتيجية! وهذه الاستراتيجية ليست من نتاج عقل ترامب ! ولكن التهريج الذي يثيره الرئيس الأميركي، هو الذي يخدعنا. فلا يجب أن ننسى أنه نجح في الكوميديا الارتجالية (المونولوج الكوميدي stand-up) وهي نوع كوميدي يجعل «الجمهور شهودًا» على قصص يرويها وتجذب الانتباه.
يتحدث دونالد ترامب بشكل دائم عن «الدولة العميقة» (deep state) ويندد بها، وهي تعني وجود تسلسل هرمي موازٍ للحكومة داخل الدولة، يمسك سرًا سلطة اتخاذ القرارات أو التأثير على مسارها وانعكاساتها على المجتمع، قوة قادرة تصمد أمام التغيرات السياسية، وتحافظ على نفسها بطريقة متماسكة، ولا تؤثر على مسارها المتغيرات السياسية، ولكن هذه الدولة داخل الدولة تتجنب مواجة الحكومات مباشرة لا تتصلب لا بل تنكفئ في حال وجود معارضة سياسية أو اجتماعية لتوجهاتها.
ولكنها تتابع التحضيرات بانتظار الفرصة المناسبة.
فرصتها كانت عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
يشير ترامب دائما في التعبير عن «الدولة العميقة» إلى مؤامرة سرية تحاك في الخفاء، وهو ما يؤجج مشاعر الحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية. ولكنه في الواقع يندد بتنظيم تتوافق أفكاره شخصياً مع تخطيط هذا التنظيم ويعتمد هو عليه أو العكس.
لا ضرورة لأي مصادر أو معلومات موثوقة، فالدولة العميقة لا أسرار لها بل هي السر العميق، تتبع مساراً للمحافظة على مصالح «الدول الظاهرة» كما تراها، وتتجنب كل الإعاقات التي تبرز في القوانين أو في الإعلام أو في إطار عمل المنظمات غير الحكومية التي تعرقل خططها … من حيث لا تدري.
إن ما يسمى «رؤية ترامب» في وثيقة «الأمن الاستراتيجي الأميركية» ( New Strategic Security ) التي صدرت في ٥ ك١/ديسمبر هي من نسج «الدولة العميقة» التي تلاقت رؤياها مع تطلعات ترامب اللاهث وراء الأضواء.
وصل ترامب من سنة إلى البيت الأبيض ولكن الوثيقة الأمنية (٣٣ صفحة) تغطي حقول عدة وفي تدرجات عديدة وتشمل رؤياً شاملة لموقع أميركا ومصلحتها حول العالم تتجاوز بمراحل ما يمكن أن يقرره ترامب في هذه الفترة القصيرة.
هذا التوجه الجديد ليس من بنات أفكار ترامب ولكن «مخططات الدولة العميقة» تلاقي فلسفة وأفكار ترامب اليمنية الـ«لاليبرالية». دور ترامب الحالي هو فقط «التخلص من كل معارضي هذا التوجه داخل الإدارة الأميركية». من هنا نتابع «طرد» عشرات الآلاف من الموظفين في مواقع مفصلية في كافة أركان الحكم (٢٠٠ ألف حتى ١٢ ت٢/نوفمبر حسب أ ف ب وراديو فرنسا). لم تشهد أميركا الماكارثية (ولا حتى أي دولة قوافل طرد موظفين بهذا المستوى ما عدى الثورة الثقافية الصينية في عصر ماو تسي تونغ أو حكم بول بوت في كامبوديا ).
لقد تم المزج بين من يعارض ترامب في قضايا شخصية ومن يقف في وجه توجهات الدولة العميقة التي رأت أن الوقت مناسب لتنفيذ ما يُحضر في الخفاء منذ انطلاق حركة «حزب الشاي» والأزمة المالية عام ٢٠٠٨. فإن وصول «ماغا» إلى الحكم يسهل البدء بتنفيذ هذه السياسة من دون اعتراضات. المهم أنه حصل توافق بين ما يراه ترامب جيداً لأميركا وبين ما تخطط له الدولة العميقة لديمومة هيمنة الولايات المتحدة،
لن يتوقف ترامب عن التنديد بالدولة العميقة دون أن يدري أن الطاعة التي يراها تحيط به هي تحت إدارة الدولة العميقة التي يندد بها، فهو يعتقد أنها سياسته وأن الخوف فقط يدفع مرافق الدولة للخضوع!
تعتمد هذه الرؤية على هوسٍ في الهوية والقومية أي كل ما يغذى مخاوف الطبقات الفقيرة، من هنا الخوف من الأجانب، من المهاجرين، ومن التغيرات الكبرى التي تُشكل المجتمع.
ترى خطة الدولة العميقة ملامح ظاهرة الخوف لدى الحليف التقليدي أوروبا أيضاً وتشجعها، وهذا يخدم الأهداف الراسخة في تخطيط ينتظر رفع المعارضة الداخلية في أميركا من منظمات غير حكومية إلى يسار ديموقراطي مروراً بمبادئ تربت عليها الأجيال تحت تسمية «الليبرالية».
من هنا صدرت هذه الوثيقة حول «الأمن القومي». (NSS)،ولهذه الوثيقة المتعلقة بالأمن القومي غايةٌ محددة. كما قلنا أعلاه لا ينبغي أن نُعزي كل شيء إلى تهوّر ترامب وجنونه. إنها استراتيجية مُحكم التخطيط لها منذ زمن يتجاوز ولايتي ترامب. وإن كان هذا الأخير يُريد أن يُسلط الضوء على نفسه.
مع ظهور الذكاء الاصطناعي، الذي يُضخّ مليارات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، أدرك من يمسك الخيوط من وراء الحكومات أن هذه هي اللحظة المُناسبة لإظهار نزعتها الإمبريالية الصارخة.
فهي تسعى بقوة لتقسيم هذا «العالم-القرية» إلى ثلاث كتل تتقاسمها مع الصين وروسيا، وهو ما يُناسب أمريكا تمامًا.
لكن لكي تنجح هذه الخطة، كان لا بد من إخضاع أوروبا، تلك القارة الأوروبية التي بسبب «الاتحاد الأوروبي» تخنق أي تغيير يتماشى مع المخاوف الأمريكية: يجب أن تخضع الهجرة لقوانين مشابهة للقوانين الأميركية التي كانت قيد التحضير لدى إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) وأطلق عنانها وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
يجب أن تتخلى أوروبا عن كل القوانين المتعلقة بالتغيير المناخي خصوصاً وأن الولايات المتحدة اصبحت في العقدين الماضيين المنتج الرائد عالميًا للهيدروكربونات.
حرية التعبير يجب أن تكون لها حدود لا يفرضها القانون بل مصلحة الدولة والتعديل الأول للدستور الأمريكي يجب أن تحده قرارات المحكمة العليا كما نرى منذ سنة. كذلك فيما يتعلق بالأقليات الجنسية والجندرية واللاجئين. من هنا بعد أن كممت أفواه الناشطين على الأرض الأميركية يجب على أوروبا أن تتبع هذا المسار «إنه النظام الأمريكي الجديد. وليس على القادة الأوروبيون تجاهل تحالف الماضي بل عليهم اللحاق بهذه التغييرات الثورية.
إن هوس حركة «نجعل أمريكا عظيمة مجددًا» بالهوية، والذي يركز على أوروبا، لا يسعى إلى النأي بنفسه عن القارة العجوز؛ بل على العكس، يريد هذا الحراك تشكيل أوروبا على صورة أميركا الجديدة. ومن هنا جاء التقارب السياسي مع المجر وسلوفاكيا، وحتى إيطاليا، وكذلك مع اليمين في فرنسا، وخاصة في ألمانيا.
هو تماماً ما نطق به «جي دي فانز» (١٨ شباط/فبراير ٢٠٢٥) في مؤتمر الأمن في ميونيخ وترنح تحت صدمة الانتقادات كافة زعماء أوروبا قبل أن يجلسون، بعد أقل من سنة، في صف واحد، أمام ترامب في المكتب البيضاوي، كالتلامذة في الصف (١٨ آب/أغسطس ٢٠٢٥).
ترامب كان في الواجهة فقط يقدم ما عملت عليه «الدولة العميقة» منذ عقود بهدف إعادة إحياء الهوية الوطنية الغربية في أوروبا أيضاً، من خلال تسليط الضوء على التحيزات العنصرية والتأكيد على جوانب من المسيحية والقومية البيضاء، وبالتالي تعزيز الكتلة الغربية تحت المظلة الأمريكية وتتبع المبادئ التي سيسير «الغرب» على نمطها.
وخلافًا لما يصفه الرئيس الفرنسي ماكرون فهذه ليست «نزعة دولية رجعية»، أنها بالعكس سياسة التقارب على جانبي المحيط الأطلسي التي تتزامن مع صعود الذراع المالية الرقمية التي يمتلكها الأمريكيون، والتي تعزز نفسها بالترويج للعمل حسب قوانين تُطَبَق خارج حدودها، أي قوانين القوة العسكرية والاقتصادية.
تشعر الصين وروسيا بالسعادة، على أساس أن هذا المسار يمثل نهاية الهيمنة الغربية، لكن هدف واشنطن هو عكس ذلك تمامًا. يريد الأمريكيون، حيث تقودهم الدولة العميقة، إجبار أوروبا على اتباع نهجهم من خلال تفكيك جميع القيود القانونية التي تعيق زخم هذه الحركة (قوانين الهجرة، واللوائح الاقتصادية، وحماية المناخ، إلخ) من أجل بناء غرب قوي.
إن مبدأ مونرو الذي يُطبّق على أكمل وجه في وفنزويلا ودول الجنوب الأميركي، سيشمل أوروبا الغربية … شاءت أم أبت. أما بقية دول العالم فالوثيقة صريحة جداً في هذا الشأن. ستضطر جميع الدول الأوروبية للخضوع لحماية – الولايات المتحدة واتباع توجيهات هذه الإمبريالية الحديثة للاستفادة من المساعدات والحماية العسكرية و… خدمات الأقمار الصناعية!
أليس هذا ما يتحدث عنه «مسار السلم في أوكرانيا»؟ البحث عن حماية وضمانات أميركية.
ماذا تقول الوثيقة حول «الشركاء في الخليج»؟ (لاحظ إنهم شركاء وليسوا حلفاء)، تشيد بهم إذ يُظهر شركاء الشرق الأوسط التزامهم بمكافحة التطرف… «ويجب تشجيعهم». ولكن الوثيقة تعلن حرفياً عن ضرورة «التخلي عن تجربة أمريكا الخاطئة في إجبار هذه الدول، وخاصة ممالك الخليج، على التخلي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية» أي أنها تشجع الإصلاحات «دون محاولة فرضها» أي بمعنى مباشر « قبول المنطقة وقادتها ودولها كما هي». هذا الفاصل في الوثيقة يشير مواربة إلى أن جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته كونداليسا رايس كانا من معارضي «الدولة العميقة» لأنهما أرادا فرض الحرية في «شرق أوسط جديد»!
بعد أن تترسخ هذه السياسات على وقع خطط «الدولة العميقة الأميركية»، يمكن لـ«الغرب الجديد القوي» أن يلتفت نحو الكتلتين الرئيسيتين: الصين اقتصادياً، وروسيا في سباق التسلح، وقبل كل شيء، في سباق الحصول على المواد الخام لتقاسمها بين الكتل الثلاث.

