تحدثنا في مقالة سابقة عن هذا العالم الذي تحول إلى بناء من طابقين (انقر هنا). لننظر إلى ما يحدث في الطابق الأعلى.
هذا الطابق ليس كامل الانسجام، ويشمل مجموعة السبع (*) ومجموعة العشرين (**) ومجموعة البريكس (***).
إذا نظرنا إلى هذه المجتمعات السبع (مع ضم الاتحاد الأوروبي المقفل بواسطة سمسم شنغن) وكيفية تعاملها مع احداث العالم وردات فعلها نرى وكانّها تعيش على كوكب آخر !
ولكن لا تظنن ان هذه الملايين (مليار نسمة) ذات قلوب قاسية او عديمة الإنسانية او ان لا حس رهيف لديها. لا على عكس هذا الظن، فهي رهيفة الإحساس إنسانية العواطف ورقيقة القلب. فهي تنعم بوجود مريح وآمن ورفاهية لا بعدها مقياس. كل ما في الأمر ان عقلها “مدجن” (يكفي قراءة ادوار سعيد والاستشراق) كما ان للإعلام دورا لا يستهان به في “تشحيل” الأخبار وتعقيمها.
كيف؟
لا يوجد كذب أو تدجيل! الأمر يحتاج إلى الغوص في علم التواصل والالسنيات مع بعض الرزاز من علم النفس، الذي يتكيء على “باتوس” (pathos) هذه الشعوب وما زرعته عقود من الاستعمار وتوليفة الاستشراق، أي النظرة الفوقية مزروعة في نفوس هذه الجماهير من دون علمهم وهي تندس في لاوعيهم العميق.
في الإعلام حدث ولا حرج لنأخذ غزة ومشاهد غزة و٤٠ ألف قتيل في غزة كمثال اليوم: عند مشاهدة النشرات الإخبارية في قناة غربية عموماً، نرى أنه توجد قواعد غير مكتوبة يلتزم بها أي صحفي مقدم الأخبار.
لنترك غزة أو حتى أوكرانيا وتاهيتي والكونغو والسودان والمجاعة… خلال شهري الفرص الصيفية لنعود إلى رفاهية مجتمعات الطابق الأعلى.
كل ما يحدث حول العالم لا يؤثر قيد انملة على حياة وروتين سكان مجتمعات الغرب. حجوزات الفنادق وحركات الطيران لا تتأثر أهالي الشمال الأوروبي يتوجهون إلى شواطئ الجنوب الأوروبي، نشرات الأخبار تبدأ بأحوال الطقس وريبورتاجات حول مخيمات الاصطياف ومناطق جديدة تبهر أنظار المتابعين.
حدث جليل مثل هزة أرضية تأخذ «٤٥ ثانية» في نشرات الأخبار وتعود لها القنوات بعد يومين في ريبورتاج يستجلب الشفقة ولكنه في آن واحد يثبت مجتمعات الرفاهية بضرورة المحافظة على وضعهم حيث لا يصيبهم ما يصيب «الآخرين». حرب غزة تكتب عنها الصحافة كل يومين أو ثلاثة، في سياق مباحثات بعيدة عن أرض الرفاهية.
ولكن الأهم هي رفاهية الحياة اليومية بمعناها الواسع: أي الأمن والأمان في كافة المجالات.
– في مضمار الأمن الصحي تؤمن السلطات حماية مستدامة وترفع سداً منيعاً عند أي أزمة صحية، تلتفت لشعوبها قبل الشعوب الأخرى وقد اثبتت جائحة كوفيد هذه الثابتة في التصرف.
– في مضمار نهاية الحياة : التقاعد مؤمن وشهرية نهاية الخدمة تصل لهذه الشعوب أينما حلوا داخل تلك الدول أو حتى خارجها.
– في مضمار العلم والثقافة تؤمن حكومات تلك الدول افضل سبل التعليم ونشر المعرفة المتقدمة للمحافظة على السبق الحضاري والتقني الذي يديم التفوق. وأثبت ذلك نشر وانتشار العلوم الرقمية امس والذكاء الاصطناعي اليوم وغداً وبعد الغد البعيد.
– في مضمار البيئة تبحث تلك الدول على حماية أراضيها من الاحتباس الحريري بفرض نظم تعيق تقدم «الطابق الأسفل» أي الدول الفقيرة، رغم أن الاحتباس الحراري هو وليد سياسات الدول الصناعية. أضف إلى أنه حتى زمن قصير جداً كانت حاويات القمامة والنفايات الصناعية تذهب لتلوث أفريقيا مقابل بعض الدولارات.
– في مضمار الأمن الغذائي والمياه فإن سياسة حكومات تلك الدول تضمن درعاً غذائياً لشعوبها وتؤمن استمرارية تدفق المياه ودعم الزراعة وهي عوامل مترابطة . أنظر إلى اخضرار تلك الدول وطفرة المياه المتواجدة بغزارة.
– في مضمار الأمن والأمان فإن مبدأ حماية مواطني دول الرفاهية هو ثابتة ومؤسس لقواعد تلك الدول: الامبراطورية البريطانية كانت أول من شن حملات عسكرية لانقاذ أي مواطن لها في أقصى المعمورة إستناداً إلى مبدأ المحافظة على الانسان وحريته المعروف بـ «هَبيياس كوربوس» (habeas corpus). اليوم تتحرك الأساطيل لنجدة مواطني دول الرفاهية هذه في أي بقعة حول العالم.
هذا الأمان في كافة المجالات يجعل هذه الشعوب متمسكة بأنظمتها لا تريد بأي شكل من الأشكال التنازل عن واقع الرفاهية التي تؤمنها لها سياسات بلادها.
هذا الأمن الذي يعكره من حين لآخر عمل إرهابي أو هجوم من ذئب متوحد، ولكن بعد أيام قليلة ينساه المتواجدون في دائرة الاستهداف ويصبح غائباً في المناطق البعيدة عن الحدث ويغوص في نسيان سكان تلك الدول بعد أقل من اسبوعين . لتعود حياة الرفاهية إلى مجاريها بعد الأخذ ببعض الاحتياطات الأمنية.
نعود إلى غزة … واسرائيل.
حتى السابع من أوكتوبر ٢٠٢٣ كان يمكن تصنيف اسرائيل وسكانها من ضمن «دول الرفاهية». كان مستوطنوها يعيش في ظل أمان القوة العسكرية وما يحصل من أعمال مقاومة كانت تبدو بعيدة لا تؤثر على سياق الرفاهية، وكانت الدولة العبرية تؤمن كافة ما تؤمنها الدول الغربية الراقية من أمن صحي وأمن اجتماعي وثقافي ورفاهية.
في لاوعي الدول الغربية كانت اسرائيل «مماثلة» لهم متقدمة تقنياً وحضارياً ،لكن بشكل خاص تقدم الأمن لمواطنيها حيث نسب عالية منهم مزدوجو الجنسية … أي يحملون جنسيات دول الرفاهية.
عندما تكتب الصحف العبرية وتصف حرب غزة بأنها وجودية فهي تشير إلى هذا الابتعاد عن دول الرفاهية. بهجوم ٧ آوكتوبر صفه كما تريد إرهابي أو عمل مقاومة فهو «سلخ اسرائيل» عن دول الرفاهية الغربية أفضل مثال استطلاعات الرأي التي تشير إلى خوف ورغبة بالهجرة المعاكسة.
هل أظهر استطلاع فرنسي أو اميركي أو بريطاني عن خوف مواطني تلك الدول بعد عمل ارهابي ورغبتهم بهجرة فرنسا أو أميركا أو بريطانيا؟ في الإجابة على هذا السؤال سبب كون هذه الحرب وجودية للدولة العبرية.
***
الجدير بالذكر بأن ما أضيف إلى السبعة ليصل إلى عشرين عضوا شكل نوعاً من الترضية السياسية لهذه الدول وذلك بحجة اقتصادية في محاولة لكسب جيوسياسي.
أما البريكس فكان منذ البداية حلف جيوسياسي للتصدي لمجموعة السبعة التي شئنا أم لا هي راس حربة الحلف الأطلسي.
* كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة
** الأرجنتين وأستراليا والبرازيل وكندا والصين وفرنسا وألمانيا والهند وإندونيسيا وإيطاليا واليابان وجمهورية كوريا والمكسيك وروسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة
وهيئتين إقليميتين: الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي
*** برازيل، روسيا والصين وأفريقيا الجنوبية السعودية، الإمارات، مصر، إثيوبيا، إيران